محمد الرواس: عقلانية تفضحها التفاصيل

حسن الساحلي

الأربعاء 2019/03/13
رغم أن بعضاً من العناصر التي تتألف منها لوحة محمد الرواس مألوفة للناظر، تبقى أعماله ذات نضارة فريدة من نوعها في عالم الفن التشكيلي اليوم. وذلك ليس فقط بسبب قدرتها على جمع كمّ من التناقضات، التي لا تتجاور في العادة، بل أيضاً بسبب التقنية العالية التي يشتغل الفنان بها تفاصيله، والتي توحد عناصر مأخوذة من حقبات وعوالم مختلفة، بأسلوب "واقعي سحري"، يظهر بأعلى درجاته عند مقاربته فن التصوير الفوتوغرافي، بتقنية منافسة للواقعية التي يفترض أن ينفرد بها هذا الوسط. وهذه المرة لم يستعمل الرواس التقنيات الطباعية التي تمرّس فيها على مدى عقود من مسيرته، كما يظهر في إضافته لمسته الشخصية على شخصيات مأخوذة من حقبات مختلفة من تاريخ الفن، بحرفية تضاهي الأصل وتضيف إليه، ما ينطبق أيضاً على شخصيات "المانغا" التي تصبح أكثر حيوية وذات أجساد حية ولامعة رغم كرتونيتها الإصطناعية. 
في معرضه الأخير Recent Works (غاليري صالح بركات) يكمل الرواس ما بدأه في معرضه السابق "تمجيد المرأة" (2016) بأسلوبه ومواضيعه وشخصياته الأنثوية المتعددة والطاغية على اللوحات كافة، كما في حواره مع لوحاته وأعماله القديمة، لكن مع التركيز هذه المرة على اللوحات ذات الأسلوب التعبيري التي عمل عليها في منتصف السبعينات (ابتعد الرواس سريعاً عن هذا الأسلوب بعد دخوله مجال الطباعة في الحقبة اللندنية من حياته في بداية الثمانينات). فأنتج نسخة جديدة من لوحة "القطار"، مشروع تخرجه في الجامعة اللبنانية في العام 1975، بطريقة لا تبتعد عن أسلوبه الحالي، لكن مع المحافظة على البنية الأصلية التي اتسم بها العمل الأصلي، حيث بقي المخطط العام السابق نفسه، أي مواقع الشخصيات في اللوحة والأحجام التي تأخذها.

لكن ما عدا ذلك، تغيرت أكثرية التفاصيل الداخلية في اللوحة، فأصبحت الشخصيات الهائمة والتجريدية في اللوحة الأولى، أجساداً واضحة وواقعية المعالم، كما أن الأسلوب التعبيري و"العاطفي" السابق، أصبح أكثر عقلانية وأقل "مباشرة جنسياً". فاختفى الجسد العاري والعضو الانثوي (بقي جسد شخصية المانغا عارياً من الأعلى)، من دون أن يتراجع الدفق الجنسي، بل فقط تحول في نوعيته وطريقة مقاربته، من كونه معلناً وشهوانياً، إلى آخر أكثر عقلانية وأقل مباشرة، تفضحه الأجزاء الصغيرة الظاهرة من الأجساد والنظرات المتحدية والمبتسمة للشخصيات الأنثوية في اللوحات.
 

ورغم أن عناصر النسخة الثانية تنتمي إلى العوالم نفسها التي يتطرق إليها المعرض (ولن يلاحظ المشاهد غالباً الحوار الذي يجريه الفنان مع ماضيه في حال لم يقارن بين اللوحتين)، إلا أنها من اللوحات القليلة الخالية من "الوجوه الحقيقية" الموجودة في باقي اللوحات. كما أنها من اللوحات القليلة التي تنظر أكثرية الشخصيات فيها نحو المُشاهد، عوضاً عن بعضها البعض (تحتل شخصية "المانغا" حيزاً متقدماً في هذه اللوحة، فهي قرينة فتاة الحاضر كما في لوحة "The Masons"، والعنصر الأكثر جاذبية للعين بسبب المزيج بين البراءة الملائكية والإثارة الجنسية، التي تعتبر إحدى ميزات فتيات "المانغا" في كل حال).

نقول الوجوه الحقيقية، بقصد الحديث عن شخصيات تنتمي إلى عوالم الصور الفوتوغرافية التي تتقدم Foreground أكثرية لوحات المعرض، أو أقله، تأخذ موقعاً رئيسياً فيها. فصُور الفنان، غالباً، فتيات من زمننا الحالي، ثم أدخل أجزاء من الصور إلى اللوحات التي رسمها، لتصبح جزءاً منها، لكن من دون الكادر الأصلي والعناصر التي كانت موجودة ضمنها (مع الإبقاء على الطبيعة الزيتية للوحات وبلا تحويلها إلى كولاج). ويمكننا القول إن هذه العناصر الفوتوغرافية هي التي أعطت اللوحات حدتها وقدرتها على محاورة المشاهد، والتكلم معه حال وصوله إليها (خصوصاً أن الشخصيات تنظر بشكل مباشر في عيون المشاهدين بعكس الشخصيات الأخرى). فيلاحظها أولاً، قبل أن يلتفت إلى العناصر الأخرى الموجودة في اللوحة، التي تكون أقدم زمنياً في الغالب، ما ينطبق على لوحة Forging a Bond (2017) التي يبرزها كتيب المعرض كمثال لفهم اللوحات الأخرى. فتجلس في وسط اللوحة فتاة من الزمن الحاضر، بين عناصر ثلاثة، هي الملاك الموجود في لوحة لكارافاجيو، يفترض أن يهمس في أذن متى الإنجيلي، وثلاثة رجال من لوحة لدييغو فيلازكيز وهم عمال في صناعة الأسلحة لدى إله النار فولكانوس (في اللوحة الأصلية تنتابهم الدهشة عند دخول اله الشمس أبولو شاكياً خيانة زوجته فينوس -آلهة الحب- مع إله الحرب مارس)، بالإضافة إلى فتاة عارية رسمها الرواس بأسلوب تعبيري، عند قَدَمي فتاة الحاضر، لكن في مكان غير بعيد أيضاً من الرجال الثلاثة... 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024