في ملعب الغضب الأميركيّ... حفلة التفاهة

هيثم حسين

الخميس 2018/01/11
"كلّما ازدادت فضائح ترامب ازداد قرباً من الناس". مقولة أطلقها أحد أعضاء الكونغرس السابقين، وصف من خلالها قرب ترامب من الناخب الأميركيّ بطريقته الخاصّة، وقد يكون ذلك أمراً مستغرباً في الحالة الطبيعية، لكنه في عالم متخبّط مختلّ يبدو أقرب للتصديق من غيره..

الغضب هو أكثر ما يعبّر عن واقع الحال في أميركا اليوم. فكلّ فعل يثير ردوداً غاضبة. وكلّ غضب ينتج غضباً مضادّاً أشرس، ويكون ميدان الاحتراب بالإعلان عن الغضب على ألسنة الأطراف المتناحرة، وهناك ساحة حرب إعلامية مستعرة تظلّ متأجّجة باطّراد. التغاضب هنا صنو التباغض، انعكاسه المتجلّي واقعاً.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يستمتع بلعب دور المتطرّف، المستظرف الذي يزعم استرجاع العظمة لبلاده، والمستمتع بتغريداته التي تحدث أصداء هنا وهناك، وتثير سجالات حولها، تدفع المحلّلين إلى تحليلها وتفكيك شيفراتها المفترضة، في حين أنّها لا تتجاوز تعبيرات مراهقة عن حالات انفعاليّة تنتابه إزاء قضايا أو شعوب فيبدأ بالتعميم، مفترضاً أنّه يرسم خطوطاً عريضة لسياساته الخارجية والداخلية من خلالها.

كان وصول ترامب إلى سدّة الرئاسة في أميركا قد عكس انتصار الخطاب الشعبويّ الذي انتهجه في حملته الانتخابية، وتلك الحالة الشعبوية بدت متناسبة مع التهويل من شيطنة الآخر وتحميله الآثام والأخطاء المتراكمة، فهل يعاد مصطلح المكارثية الذي استخدم للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين إلى الذاكرة المعاصرة من خلال سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب؟ هل المكارثية- نسبة إلى جوزيف مكارثي، وكان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي- التي وصفت بأنها وجّهت الاتهامات بالتآمر والخيانة دون إيلاء الاهتمام بالأدلة أصبحت وباء عابراً للأزمنة؟

كانت هناك خشية من عودة المكارثية بطريقة محدثّة بصيغته الترامبية بحيث يجد المثقفون المعارضون لسياساته وتصريحاته اللامسؤولة أنفسهم أمام اتهامات وتلفيقات تنال من استقلاليتهم وتحاول ممارسة التضييق عليهم، وربما يكون التطرف أكثر تشدّداً وقد يصل إلى ممارسات أكثر خطورة وتعيد للأذهان صور حقبة العنف المكارثي السابقة، لكنّ ترامب يبدو أكثر تبجّحاً بحيث ينازل الأدباء والفنّانين وجهاً لوجه ويردّ عليهم بطريقة مباشرة، واصفاً إيّاهم بصفات تعكس بؤس حاله.

أحرج مايكل وولف مؤلف كتاب "نار وغضب.. من داخل بيت ترامب الأبيض" ترامب بما ساقه عنه من شهادات المحيطين به، وما يردّدونه عن تهوّره وجنونه، وكيف أنّه يبدو عابثاً غير قادر على التحكّم بنفسه وغير مؤهّل لحكم أعظم دولة في العالم.

تعاطى الكتاب مع ترامب بطريقته الفضائحيّة، بدا أنسب لشخصيّته، استفزّه في جحره، وهو الذي لا يخفي احتقاره للكتّاب والكتب، وجد نفسه في موقف محرج، وصف كتاب وولف بأنّه مليء بالأكاذيب، كما أنّه لم يستطع التحكّم بغضبه تجاهه. وربّما يخطر لترامب أن يصبح كاتباً، أو يؤلّف كتاباً يجمع فيه تغريداته على التويتر، وتصريحاته المتخبّطة، بحيث يصبح كتابه نكتته الأكثر شهرة وفضيحته المدوّية الجديدة، ويكون أشبه بكتاب القذافي الأخضر الذي يظلّ نكتة صاحبه الأشدّ فكاهة. وليس هناك ما هو مستغرب من ترامب الذي يصف نفسه بالعبقريّ. – يا للمفارقة! كثير من المجانين يعتبرون أنفسهم عباقرة، لكن ليس هناك عبقريّ حقيقيّ يزعم أنّه عبقريّ أو يجهر بذلك-.

بالعودة إلى حالة الغضب التي كانت قد سادت أجواء مثقّفين وفنانين في الولايات المتّحدة أثناء الانتخابات الأميركية، نجد أنّ الغضب ذاك تبدّد، أو تحوّل إلى تهدئة، وتقبّل للفجيعة، وللأمر الواقع، وفرض تعاطياً جديداً معه، بحيث تمّ احتواؤه، وتحويره وتوجيهه إلى جانب آخر.

كان الروائيّ النيجيريّ وول سوينكا الحائز جائزة نوبل سنة 1986 قد أطلق تصريحاً ضدّ ترامب وهدّد بأنه سيهجر أميركا في حال اختيار ترامب رئيساً، وهو تصريح عبّر عن موقف إنسانيّ ضدّ الظلم والعداء والترهيب من الآخر المختلف، وعكس قوة الثقافة المفروضة في مواجهة موجات الكراهية وخطابات العنصرية ضد المهاجرين، وأشار إلى تبنّي الكاتب لتيار العقلانية والإنسانية لا البراغماتية السياسية. وقد تناقلت الأخبار خبر مغادرته لاحقاً. غادر ولم يختر البقاء والمقاومة في ملعب ترامب نفسه.

كما كان هناك فنّانون ومشاهير شاركوا في حملة مناهضة ترامب ومنهم الممثل الشهير روبرتو دي نيرو، وبراين كرانستون، صامويل إل جاكسون، مايلي سايرس، باربرا سترايسند، لينا دونام، آمي شومر، جون ستيوارت، تشيلسي هاندلر، ووبي غولدبرغ، وغيرهم ممّن أعلنوا مواقفهم الصريحة والواضحة ضدّ ترامب وتوجّهاته وسياساته وشعبويّته، لكنهم في النهاية ظلوا أصواتاً مؤثرة في دائرة صغيرة وهذا ما أثبتته نتائج الانتخابات التي أوصلت ترامب إلى قيادة البيت الأبيض.

أين هؤلاء اليوم وهل أذعنوا للتيّار الترامبيّ الغاضب المترنّح أم أنّهم ما زالوا يقاومون بطريقتهم في الملعب نفسه أيضاً؟

هنا، ربما تكون الجملة التي استهلّ بها أمين معلوف كتابه "اختلال العالم" أكثر دلالة اليوم وأكثر تجلّياً وتجسداً على أرض الواقع حين قال: "دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة". إذ إنّ القرن الذي بدأ بحروب شنها الأميركيون على أفغانستان ثم العراق ينذر بما هو أخطر في ظل السياسات المعلنة، وفي ظل الحروب المحتدمة في منطقة الشرق الأوسط، والاستقطابات العالمية والأزمات التي تعصف بأكثر من منطقة في العالم الذي يمضي بقوة في درب اختلاله المكشوف.

يكشف الغضب المستعر في داخل البيت الأميركيّ بعض الأسرار تباعاً، ويبدو أنّ المسلسل الأميركيّ الشهير "the house of cards" يتمظهر على أرض الواقع في "حفلة التفاهة" بحلّة ترامبيّة تتداخل فيها النقائض كشخصيّته نفسها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024