فقاعات الإنتفاضة... ومنصات الصوت المريبة

حسن الساحلي

الخميس 2019/11/21
لدى التجول اليوم في وسط بيروت، حيث التجمع الأكبر للمتظاهرين في لبنان، تجد نفسك محكوماً بفضاءات ومساحات صوتية متداخلة، تسيطر عليها مكبرات صوت ومنصات وضعت بمبادرة من أفراد وجماعات مشاركة في الانتفاضة.

تختلف هذه المنصات بحسب إمكانات صاحبها، فتجد منها الضخمة التي تكون عادة شاحنة أو مسرحاً مجهزاً بمكبرات للصوت ومتوسطة الحجم، لكنها فعالة في التظاهرات والساحات الصغيرة، بالإضافة إلى تلك التي توضع بمبادرات فردية. يُعتبر "حزب سبعة"، صاحب المنصات الأكبر في وسط بيروت، وهو يسيطر عملياً على غالبية فضاء ساحة الشهداء، مانعاً وجود أي مصدر صوتي منافس. يأخذ "سبعة" حجماً في الساحة يفوق تمثيله الحقيقي، كما يستعمل إمكانات تفوق بأضعاف أقرب منافسيه، بطريقة تبدو مريبة، وأشبه بممارسات أحزاب السلطة، التي تفتقد، مثله، أي ارتباط حقيقي بالشارع. كنا قد رأينا خلال الثورة نماذج لمنصات شبيهة  لمنصته في ساحات أخرى، واللافت أن أكثرها أتى بمبادرات من أحزاب تُتهم بمحاولة "ركوب" الثورة.



تستعمل المجموعات ذات الإمكانات الأصغر، منصات شبه مرتجلة أو فانات محملة بمكبرات صوتية (تُلقى من أعلاها احياناً الهتافات والتعليقات ذات الطابع الخطابي) تجدها غالباً في شارع رياض الصلح ذي الفضاء المتنوع والحيوي. من هذه المنصات واحدة وضعتها مجموعة طلابية في أول الشارع منذ بداية الثورة ولا تزال حتى الآن (بالقرب من خيمة بعلبك الهرمل). يخبرنا أحد المشرفين عليها أن الهدف من انشائها كان "إيصال أصوات جميع الفئات المشاركة في الاحتجاجات وليس فئة صغيرة تسيطر على رأي الجميع كما هو الحال في ساحة الشهداء". تتنوع أغاني المنصة بين الوطنية والداعمة للجيش، مع تنويعات يسارية من السبعينات والثمانينات، بالإضافة الى أغاني دبكة وبوب تغير الأجواء من وقت لآخر. وتُنظم أمام المنصة دورياً نقاشات Open Mic تسمح لأي شخص أن يتكلم عبرها، بشكل شبيه بتلك التي تنظم في الخيم المجاورة.

يعرّف أصحاب المنصة أنفسهم كمجموعة طلاب ينتمون إلى مختلف الجامعات اللبنانية "يحبون وطنهم وجيشهم"، واختاروا التمركز "في مكان يشعرهم بالأمان بسبب قربه من خيمة أساتذتهم"! تعطي المجموعة صورة محافظة عن نفسها، يعززها حديث أحد الإعضاء عن التزامهم "التشويش على الشتائم التي يكيلها المحتجون، تجاه بعض السياسيين من خلال رفع صوت الأغاني للتغطية عليها، وكنا قد رأينا نظيراً لهذه الممارسة مع مجموعات يمكن وسمها بالثورة المضادة، قررت بمبادرة ذاتية إزالة الشتائم الموجهة للسياسيين عن الجدران.

في ساحة رياض الصلح، تجد بشكل دائم شاحنة صغيرة محملة بمكبرات الصوت، يقف عليها أحيانا ناشطين أو محتجين. تسيطر على الفضاء الصوتي، في ساعات الذروة، صيحات هؤلاء التي تخلط الغضب والحماس بالتعليقات ذات الطابع الخطابي التي تتناول مواضيع تشغل الشارع. في أوقات أخرى تصبح الساحة مكاناً للرقص واللعب، من دون أن تتوقف الممارسات الأدائية التي يحتفل من خلال المحتجون بتوحدهم في وجه السلطة مثل تحريك الأيادي أو الهواتف النقالة المضاءة التي تشكل لوحات بصرية خلال الليل. 



من جهة أخرى، يسود في الفضاء الفاصل بين المنصتين (منصة الخيمة الطلابية ومنصة ساحة رياض الصلح) ممارسات صوتية أكثر ديموقراطية، يشارك في أنتاجها مجموعات وأفراد متنوعو الانتماءات والمشارب، هم بعكس النماذج السابقة، أكثر اندماجاً بالشارع بسبب احتكاكهم المباشر مع المحتجين واعتمادهم على الهتافات التي تتطلب المشاركة والتفاعل المتبادل. تعتبر هنا، مكبرات الصوت اليدوية، الوسيلة الأساسية لإصدار الصوت (بالإضافة لحناجر الهتّافين والمحتجين)، وإحدى ركائز "المشهدية الاحتجاجية" التي تتبناها بعض المجموعات المشاركة في الثورة. من الممتع الإنتقال في شارع رياض الصلح خلال أوقات الذروة، فكل بضعة أمتار، تجد مجموعة من الأشخاص الذين يحيطون بأحد عازفي الطبل أو الهتّافين، مشكلين فقاعات متجاورة تصنع فضاء الشارع.

تخترق هذه الفقاعات، آلات إيقاعية مختلفة القدرات الصوتية والأحجام، من الطبول التي كانت تستعمل للتشجيع في مبارايات كرة القدم، إلى الطناجر التي بدأت كنُكتة قبل أن تصبح ممارسة احتجاجية منتظمة وفعالة. تساهم هذه الممارسات في زيادة الحماسة و"الحضور الجسدي" للمحتجين في حال اصطدامهم مع الأمن، لكن تبقى أجمل مشاهد الساحة وأمتعها، "مشهدية" ضرب الأسوار المعدنية التي تحيط بورش البناء الفارغة، وذلك بشكل عنيف ومتزامن مع عشرات المتظاهرين الآخرين، ما يخلق عاصفة صوتية ودرجات عالية من الضجيج الجنوني و"البدائي" الذي يعتبر، بلا شك، التعبير الصوتي الأصدق في الساحات اليوم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024