ألكسندر سوكوروف لـ"المدن": أبحثُ دائمأً عن "هارمونيا الأمل"!

هوفيك حبشيان

الأربعاء 2015/10/14

من بلاد الصقيع والقسوة والعذوبة، يجيء ألكسندر سوكوروف. منذ تاركوفسكي، لم يمتلك سينمائي روسي الوهج والحضور اللافتين. هواة السينما الخارجة عن الدروب المطروقة على موعد متواصل مع أفلام سوكوروف منذ تحفته "أمّ وابن" (1997)، حيث اكتشفنا رؤيته المشعّة التي تنضج بالرموز والإيحاءات، مروراً بثلاثيته عن السلطة المطلقة، وصولاً إلى فيلمه الأشدّ براعة، "الفيلق الروسي"، المصوَّر بلقطة واحدة، أو "فاوست" المتوَّج بـ"الأسد الذهب" في مهرجان البندقية السينمائي. في جديده "فرنكوفونيا"، وضع سوكوروف كاميراته في متحف اللوفر الباريسي، طارحاً من خلال جولاته فيه أسئلة شائكة، أبرزها: كيف ينأى الفنّ عن الحروب والكوارث التي يبتكرها الإنسان؟ أوروبا المحتضرة، النازية، عصر النهضة، هذا كلّه يستدرج المخرج إلى خطاب تتقاطع فيه السياسة بالثقافة. لسوكوروف قدرة عالية على مخاطبة العقل والشعور، وتشكيل كادرات تنطق بالحبّ والأمل والموت في آن. في الآتي، لقاء خاص مع سينمائي يمنح الإحساس مع كلّ فيلم جديد له، إنه يعانق العالم من شرقه إلى غربه بأفكاره وفلسفته ورؤيته للإنسان، كائناً قادراً على الأفضل والأسوأ.

· مع "فرنكوفونيا"، أنتَ تأتينا بفيلم آخر عن السُلطة... 
ـــ صحيح، ولكن في الحقيقة ليست كلّ أفلامي عن السُلطة. ينطوي بعضها على نزعة تاريخية. منها مثلاً "أبّ، ابن" و"أمّ وابن". إليك فيلمان بعيدان من المقاربة السلطوية للموضوع المطروح. كذلك الحال بالنسبة إلى "ألكسندرا". في المقابل، أجدني أعاني صعوبة في مقاربة التاريخ إذا لم أدخِل عنصر السُلطة اليه. السلطة شيء يفرزه العقل البشري فحسب، لا الله ولا الطبيعة! هي مرتبطة عضوياً بالكائن الحيّ. عندما نتناول السُلطة التي يمثّلها أحدهم، فهذا مدخل لتفكيك شخصيته، وغالباً ما نلمس ضعفها، وصولاً الى التأكد من الضحالة التي تأسّست عليها تلك السُلطة. نحن البشر، كُتِب علينا أن نكون ملحقين لشخصيات مماثلة وخاضعين لها. مهما كان النظام القائم في البلد الذي نعيش فيه، فإننا نستمرّ في الحياة تحت وطأة طباع الشخص الذي يحمكه. لا يمكن أن نجد طريقنا بمنأى عن هذا. أحياناً، يكون هذا المتسلّط شخصاً يهوى الفنّ، وفي أحايين أخرى يكرهه. كلّ شيء يتوقّف على مزاجه الشخصيّ. في كلتي الحالتين، نراه يختلق المشكلات جراء النفوذ الموكلة إليه وبسبب ما يمكنه أن يصنع بسبب تلك النفوذ. أهداف الفنّ، يا للأسف، لا تتقاطع البتة مع أهداف السُلطة والدولة.


·         أوروبا طاغية بحضورها على الفيلم من خلال الفنّ والتاريخ. هل في إمكاننا اعتباره استعارة لراهنها، خصوصاً مع رمزية الباخرة المحمّلة تحفاً وهي تقاوم الغرق؟ 
ـــ في رأيي، أوروبا قد تموت بموت دينها. في معركتها الأخيرة، المسيحية هي الخاسرة الأكبر. على الأرجح، لن تبقى لها لغة مشتركة مع العالم الإسلامي. نشيد الموت الذي تسمعه في الفيلم غير مرتبط بالضرورة بالموت المحتم. إنه إنعاش لأشياء جميلة من الماضي لا تزال صامدة في ذاكرتنا. في مجال الموسيقى، تحمل المعزوفات الليريكية في مضمونها هذا النوع من الحزن والأنين، وهي غالباً تقودنا الى الماضي. قد يمضي الحبّ، ولكن نعيش مع ذكراه وأحياناً نقول في سرّنا: آه، كم كان إحساساً جميلاً. 


· هل العلاقة الإشكالية بين الفنّ والتاريخ ما وددتَ أن تركز عليه منذ البداية؟
ـــ لم يكن ثمة مهرب. الموضوع فرض نفسه. الفنّ مدخلنا الى الحضارات. والمتحف هو حاضنة الحضارات. كيف تريدني أن أعرف أي شيء عن العرب إذا لم أزُر أياً من متاحفهم؟ كلّ منّا يعيش بعيداً من الآخر. فقط عبر مجيئك الى الإرميتاج، تستطيع أن تفهم ماذا تعني الثقافة الروسية، ويمكنك حتى الوقوع في غرامها! الفنّ يقول تاريخ البشر لا تاريخ الأباطرة وأصحاب السُلطات. متحف اللوفر بمنزلة جبل يستحيل عدم رؤيته والانتباه لعظمته. كيف يجوز ألا نزوره أقله مرة واحدة؟ كون روحي قريبة جداً من الإرميتاج، أردتُ الاقتراب أكثر من اللوفر والمقتنيات والتشكيلة الكبيرة من اللوحات والتحف التي في داخله. إدارة اللوفر كانت سعيدة، ولكن كانوا يريدون المزيد من التركيز على تاريخه. لم يستسيغوا فكرة أن أورّطهم في حقبة احتلال باريس وكلّ هذه الأشياء. 


· هناك بعض السخرية المحبّبة في الفيلم والعديد من المَشاهد حيث نكتشف ــ متأخراً ــ حسّ الدعابة لديك (خصوصاً في كلّ ما يتعلق بظهور نابوليون بونابارت)، وهو شيء لم يتح لنا المجال لنكتشفه في أفلامك السابقة. 
ـــ قد أكون بلورتُ هذا الجانب فيّ نتيجة اليأس المزمن. هناك أشياء فظيعة حدثت خلال الحرب العالمية الثانية حدّ أنّه يصعب تحويلها مادة للمزاح. ولكن لا أوفّر فرصة لإطلاق دعابة عندما أرى أنّ السياق لائق. الضحك تطهير. 


· ولكن نادراً ما تستخدمه...
ـــ صحيح. عندما تكون في حال ألم، حتى الابتسامة تصبح مفقودة عن وجهك.


·  أحببتُ جداً هذا التعامل مع الزيف، عندما صوّرتَ بعض الفصول الدرامية في قالب شكلاني تحيلنا على أربعينات السينما الفرنسية، هذا كلّه في إطار فيلم عن متحف، أي عن مكان يبتعد من أي تقليد أو زيف. 
ــ الفيلم نفسه موزاييك. إنه "باتشوورك" يتشكل من شذرات. في أفلامي، أبحثُ دائماً عن "هارمونيا الأمل" وكيفية بلوغها. وهنا، لم يكن ممكناً بلوغها من دون هذه التركيبة الفسيفسائية. كما رأيت، ألجأ هذه المرة إلى الانترنت طمعاً بصيغة عصرية للسينما. "فرنكوفونيا" ليس فيلماً تاريخياً، إنه فيلم عن الفنّ. هناك ارتجال، وهناك عناصر إيحائية، وهناك ابتكارات صغيرة. لم أرد أن أجري أي اكتشاف بغية إثبات أي شيء. وددتُ إحاطة متحف اللوفر بأسئلة شائكة: كيف عاشت باريس أثناء الاحتلال النازي؟ ما هو موقف سكانها مما حصل؟ لا يمكن صرف النظر عن أنه كانت لحظة تاريخية صعبة أن يتواجه بلدان أوروبيان، هما فرنسا وألمانيا، وذلك في أكثر من مناسبة. كلّ هذا مِن أجل ماذا؟ (...). التناقضات بين الشعبين كانت عصية على الحلّ. كان يمكن فرنسا أن تصبح كتلة خراب. أستعيد ١٩٤٥ وقرار هيروهيتو والقنبلة الذرية... الأميركيون كانوا قلّة، نحو ١٥٠ ألفاً، فيما الجيش الياباني كان يتألف من أضعاف ذلك الرقم. أسبوع واحد كان كافياً لرمي الأميركيين في البحر. بالنسبة إلى هيروهيتو، كان الأمر يتعلّق بخلاص اليابان لا باستخدامه القوة. في أكثر من فيلم لي، أثير مسألة الثمن الذي دفعناه جراء قرار سياسي اتخذه المسؤولون، وكيف انعكس هذا القرار على حياتنا لاحقاً. وطبعاً، ما الثمن الذي يدفعه الفنّ خلال النزاعات المسلّحة.


· تصعب مشاهدة الفيلم من دون التفكير بما فعله الإرهابيون في العراق وسوريا أخيراً بالمعالم التاريخية. هل خطر الى بالك هذا وأنتَ تنجز الفيلم؟
ــ كلّ شيء بدأ مع الاجتياح الأميركي للعراق ونهب ثروات متحف بغداد، الأغنى في المنطقة. حينها، بدأنا نفهم ما ستؤول إليه الحال. كانت هذه ضربة قاضية على الحضارة. لم يكن لصدام حسين أي علاقة بالموضوع، فهو قاصصه الله في أي حال. يا للأسف، العالم القديم لا يعرف إلا منطقين: منطق العسكر ومنطق العنف.


· هل تعتقد أنّ كلّ ما يحصل في المنطقة خطة؟
ــ لا بل أعتبرها ذروة الحماقة الإنسانية. انعدام الثقافة. الجهل. كل هذا معاً. هناك أشخاص عديمو الانسانية والأخلاق على رأس دولنا. لا أعرف رئيس دولة حالياً يستطيع الالتزام بالمبادئ الإنسانية. الانسان أهم من السياسة ومصالحها الدولية. في روسيا، كلّ مرة يُطلَب فيها منّي دعم أحد المرشحين للانتخابات، أقول لهم: أوافق، شرط أن أقول للناخبين، صوّتوا لأولئك الذين يغلّبون البُعد الانساني على الأجندات السياسية. وغالباً عندما أقول كلاماً كهذا، يتوارون عن الأنظار (ضحك). 


·  كيف يتمّ استقبال أفلامكَ في روسيا؟
ــ كنتُ أفضّل أن يكون الوصول إلى أفلامي أسهل في بلادي روسيا. في بولونيا، مشاهدة أفلامي أسهل بكثير. هذه مشكلة كبيرة. لدينا مشكلات سياسية مستعصية في روسيا! 

· دعني أعودُ الى سيرتك قليلاً: نشأتَ في عائلة بسيطة جداً. كيف اقتربتَ من الفنّ وماذا يعني لك اليوم؟ ثم، لو كنتَ في سفينة نوح ماذا أنقذتَ، إنساناً أم تحفة فنية؟

ــ لنبدأ من الفكرة الأخيرة: أعتقدُ أنّ الجواب على هذا السؤال متوافر في "فرنكوفونيا". القبطان يحمل على باخرته ثروات العالم، وكان يمكن أن يتخلّص من البعض منها لينقذ السفينة من الغرق، ولكن نراه يعجز عن القيام بذلك. لو كنتُ نوحاً لحملتُ الجميع على سفينتي، على أمل أن ينقذنا الله (ضحك). أفضّل ألا أكون مضطراً على القيام بأي خيار. يا للأسف، الدين يفصل الناس بعضهم عن البعض الآخر. وظيفته باتت سلبية جداً، وهذا رأيي، وقد لا يتشاركه آخرون وقد لا تكون الحقيقة. أما بالنسبة إلى سيرتي، فكانت أمي تريد أن تكون طبيبة. بيد أنّ الحرب العالمية الثانية أجهضت حلمها. صارت مجبرة على تجميع الحطب لإشعال النار. بعد الحرب، تزوّجت والدي الذي كان عسكرياً، فكنّا شقيقتي وأنا نتنقل معه من مكان الى مكان. كان صعباً جداً أن نتابع التعليم في مثل هذه الظروف. كانت أمي ضليعة بالأوبرا، كان يكفي أن تصغي الى ٢٠ ثانية من قطعة أوبرالية كي تتعرف إلى هويتها وعلى الفصل الذي تنتمي اليه. إذاً، أمي هي التي أدخلت الثقافة بطابعها الكلاسيكي الى أحشائي. يجب ألا ننسى أنّ الإذاعة الروسية في هاتيك المرحلة كانت تبثّ بلا توقف أسمى أنواع الموسيقى الكلاسيكية. ربما كنتُ مهيّأ جينياً كي أتلقف الفنّ والثقافة. ما كان إيجابياً في الاتحاد السوفياتي هو أنّه كان يتيح لأي كان أن يتسلّق السلّم الاجتماعي. لا تمييز بين الطامحين والحالمين. كان زمن الممكن. الآن، كلّ شيء تغيّر. لم تعد الطرق توّصل الى أيّ مكان. في الجامعة حيث أدرّس السينما، كثر من التلامذة الذين في حصتي، ليس في إمكانهم تحمّل نفقات التعليم. هناك واقع مؤسف للغاية: الأقل ثراء هم غالباً الأكثر موهبةً. في حالات كهذه، أضطر الى التحايل على كلّ المستويات لإبقائهم داخل الصفّ. ولكن في النهاية، كلّ شيء يتوقف على قدرة الانسان على بلوغ أهدافه. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024