ثورة عامة الناس والأفراد.. على حالة الشعب والسكان

نجيب جورج عوض

الثلاثاء 2019/11/19
من أهم العناصر أو الجوانب المتعلقة بالثورة اللبنانية أخيراً وأكثرها إثارة للمراقبة والتحليل والدراسة بعمق وتأنٍ، التجمعات البشرية الغفيرة، التي نزلت إلى الشوارع وملأت الساحات على امتداد لبنان منذ قرابة الشهر.

ماهية وطبيعة الثوار والمعطيات المعرفية التي يمظهرونها أمامنا، قد لا تكون جديدة أو فريدة، فقد شهدنا تمظهرات وماهويات مشابهة جداً لها تملأ الساحات العامة والشوارع في مدنٍ وعواصم على امتداد بقعة العالم العربي، وبرغم الطيف الواسع والمتنوع اللانهائي لسياقات بلدان ذاك الفضاء الجغرافي واختلافاتها البنيوية. لربما يمكن الحديث عن جماهير ثورية مشابهة في بنيتها وماهويتها وملامحها لما نراه في المشهد اللبناني في بلدان مثل تونس والثورة الأولى في مصر، والجمهور الثوري في الشهور الثمانية الأولى من عمر المأساة السورية ومؤخراً في العراق أيضاً. وبرأيي أننا ما لم نتفحص بهدوء معرفي ونشرِّح ابستمولوجياً البنية الفكرية والمتمظهرة في هؤلاء الشباب والشابات والمواطنين والمواطنات، فلن نستطيع أن نفهم بالعمق المطلوب ونسبر بالشمول الكافي ماهية تلك الثورة في لبنان، وأسباب تمظهرها بتلك الملامح والصفات التي تتمظهر بها ويصرُّ أبناؤها وبناتها على التمسك بها.

منذ بضعة أعوام كتب أستاذ الفلسفة المعاصرة التونسي، فتحي المسكيني، كتاباً بعنوان "الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة"، ختمه بملاحظات تفكيكية وتشريحية للبنية المَهَوية (من ماهية) للشباب الذي ثار في تونس في ربيع هذا البلد العربي الذي حدث في مطلع العقد الثاني من القرن الحالي. يقترح المسكيني أنَّ ما شهدته الساحات في مشهد الربيع العربي التونسي، ما لم يكن في كافة الساحات العربية التي شهدت انتفاضات، هو نوع من الصراع المفاهيمي بين مفهومي "الحرية" و"الهوية". فالشارع العربي المعاصر مثَّل في انتفاضاته نوعاً من التمرد العلني والصريح ضد جدلية التضاد التي خلقتها الدولة/الأمة المعاصرة في بلدان العالم العربي بين أن تكون حراً وأن تكون مواطناً، بحيث باتت المواطنة مشترطة بهوية مسبقة الصنع، مُنزلة من أعلى، تصنعها وتشرعنها وتقررها الإيديولوجية الهووية (من هوية، كذا في نصوص المسكيني) التي تخترعها الدولة/الأمة وتعتبرها تذكرة عبور الأفراد من حالة "عامة الناس والأفراد" إلى حالة "الشعب والسكان"، والتي تصبح بسببها الهوية المواطنية أحد الأدوات الأولى لإسكات وكبت، إن لم يكن قتل، الذات الحرة في الأفراد. 

أوافق المسكيني تماماً في اقتراحه بأن نستخدم هذا الفعل السياسي المؤدلج المذكور كأداة هرمنيوتيكية لتفسير الجذور الأساس للدوافع التي دفعت بالملايين في بلدان العالم العربي المختلفة للنزول إلى الشوارع، والانتفاض والاحتجاج بعد عقود من حالة بدا معها، وكأنَّ العالم العربي يعيش في سبات عميق وسكون مطبق وربما لاحياة. من نزل إلى الشوارع وانتفض، يقترح المسكيني محقاً، لم يكن يدافع عن أي مدونة إيديولوجية أو رابطة قومية أو منظومة عقدية بعينها. هم ثوار خرجوا للشوارع لا لأي سبب هووي بل انطلاقاً من دافع جارف بالدفاع عن حريتها انطلاقاً من شروط بقائها الأساسية على قيد الحياة؛ على قيد الوجود؛ على قيد التكوّن الذاتي الناظم لما يعني كينونتها الذاتية، وليس لأي دافع إيديولوجي يدفع مثلاً للنهوض ضد عدو أجنبي على قاعدة التعصب لهوية ما صنعتها سياسة أو أيديولوجيا المواطنة التي ارتضتها الدولة/الأمة وفرضتها على الجميع.

يذكر المسكيني أن النخب الثقافية في المشهد التونسي، انتقدت الثورة التونسية لا لسبب آخر أكثر من مدنيتها وعفويتها وجماعيتها الصرفة، بأن اتهمتها بأنها ليست ثورة لعدم وجود قيادة لها. على هذا المنطق، يرد المسكيني بتأكيده أن تلك الثورة لم تكن بلا قيادة، لكن مفهوم "قيادة" برمته في تفكير أولئك المنتفضين والثائرين مفهوم مختلف تمامأً عن مفهوم القيادة الصنمي والتوثيني الذي سمحت إيديولوجيا الهوية المواطنية في الدولة/الأمة باتباعه في ظهرانين الشعب. ما لدينا إذاً هنا ليس "ثورة بلا قيادة"، بل "ثورة تفهم القيادة وتمظهرها بآليات معرفية ومفاهيمية مختلفة كلياً". هناك تحول في المشهد الثوري العربي، ينبهنا المسكيني، في معنى "قيادة" من "قيادة النخبة" إلى قيادة يسميها المسكيني "ميكروسياسية"، ويصفها بأنها "آنية ومؤقتة ومتحولة ومتكثرة ومتدفقة ومتفجرة كنهر من الحرية المندفعة من دون أن تمتلك هدفاً منهجياً محدداً سلفاً". لا بل إننا، من هذا النفاذ، لا يجب ربما حتى أن نتحدث عن "جماعة" أو عن فعل ثورة "جماعي"، بل الأفضل الحديث عن جموع حرة تشترك مع بعضها البعض في تحررها من المنطق الهووي التعريفي الذي تفرضه إيديولوجيا المواطنة التصنيمية والوصائية الذي تفرضه الدولة/الأمة على الأفراد كي تسمح لهم بالعيش كمواطنين في أرض ما. لا شك بأنه من المستحيل هنا أن يدعي أي فرد أو طرف بعينه بأنه "قاد الثورة"، أو أنها "تدير حراك الانتفاضة"، وأنهما "ينطقان فكر الثورة ونبض الشارع"، فلا أحد بعينه أو عينها يمكنه أن يكون ذلك لأنَّ الجموع الثائرة لا تتعامل مع أي قائد أو مفكر أو منظـِّر بعينه أو عينها على أنه وأنها قائدها، لأن تلك الجموع ببساطة تملك مفهوماً مختلفاً تماماً معرفياً ووجودياً عن معنى "قيادة".

لن أخوض أكثر في تفاصيل التحليل الفلسفي العميق والمصيب الذي يقدمه فتحي المسكيني ببراعة وحرفية عن المشهد التونسي للربيع العربي. سأعود إلى المشهد اللبناني لأقول أن رفض الشوارع الثائرة في هذا المشهد لخلق قيادة واحدة تتحدث باسمها ومن ثم تصنيم تلك القيادة وتقديمها على أنها صوت أو وجه أو عماد الثورة، أمر ينسجم كلياً ومنطقياً بشكل ناجح جداً مع آليات تفكير ومنطقيات تفسير أجيال عديدة جداً من اللبنانيين المعاصرين، لا بل والعرب المعاصرين، ومقاربات فهمهم لذواتهم "كذات" وليس ككائن محبوس داخل هوية أو داخل إيديولوجيا هووية من مقوماتها السلطوية (ذات الجذور المعرفية الدينية واللاهوتية تاريخياً) أن يكون لكل مجموع أب أو قائد أو وصي أو زعيم يقرر لهذا المجموع مصيره أو ينتظر منه ولاءاً أعماً أقرب للوثنية (أو أقرب للفهم الأفلوطيني لتعالي اللوغوس، أي المرجع الوجودي الأعلى). من نزلوا للشوارع في لبنان نزلوا تحرراً من هذا المفهوم للقيادة بحد ذاته؛ نزلوا كي يحطموا صنم فكرة "القائد" ومنطق "القيادة" اللوغوسي أو اللاهوتي الذي قامت عليه لا منظومة السلطة فقط في لبنان، بل ومنظومات الهوية والانتماء القومي والحضور السوسيولوجي وبناءات السرديات المختلفة لتأريخ الحضور والوجود اللبناني (ومعه العربي والمشرقي) برمته. ثورة الشعب اللبناني اليوم تشمل في أحد انتفاضاتها ثورة ضد أسطورة "الزعامة والقيادة"، ولهذا من المنطقي أن لا يترك طلب حسن نصر الله وعون وأتباعهما من المعتاشين من إيديولوجيا القيادة الهووية المذكورة أي صداً أو يلقى أي تجاوب من قبل الشوارع الثائرة: دعوة السلطة لا تجد أذن صاغية لأنها لا تخاطب عقول ووعي-الذات ومنطق-الوجود عند أبناء وبنات الشوارع الثائرة. هي صرخة في فراغ، بلا صدى، بلا تواصل مع الآخر.

من جهة ثانية، الثورة اللبنانية تجعلنا نقف بانتباه شديد لنتأمل إصرار الشوارع على تقديم نفسها بأنها لبنانية ولبنانية فقط. علينا أن نفهم هنا أن هذا الموقف لا يمثل تأريضاُ وتمظهراً حياً لتمسك هووي بهوية واحدة ناظمة واضحة المعالم وقابلة للتعريف الصارم والصريح والمحدد من قبل أبناء وبنات الثورة. مفهوم الهوية اللبنانية بهذا المعنى المذكور، هو في الحقيقة واحدة من أسطوريات الهوية وتعريف الذات التي انتشرت على اتساع بلدان العالم العربي منذ ثلاثينيات القرن العشرين نتيجة تأثر تلك السياقات، التي شهدت استقلالها السياسي حديثاً ذاك الزمان، بالحراك الفلسفي الأوروبي الحداثوي الذي كان منهمكاً في التأمل الفلسفي والمعرفي بمفهوم الهوية وأبعاده القومية والدولتية والسياسية وقتها (سيرورة فلسفية معرفية بدأت في القرن السابع عشر مع كانط ووصلت لذروتها في فكر نيتشه وهايدغر ومن ثم تم تفكيكها في فكر مابعد-هوسيرل الفينوميولوجي وصولاً ذروةً إلى يورغن هابرماس وشارلس تايلر). ولكن، الشارع العربي المعاصر بكافة أطيافه وشرائحه وتنوعاته وعلى كافة المستويات لا ينتمي لتلك السيرورة الفكرية، التي مازال افراد السلطة والأنضمة الحاكمة له والوصية عليه سواء السياسية أوالدينية أو الاجتماعية غائصون فيها لآذانهم بحكم انتمائهم الوجودي والكياني لها واجترارهم الديمومة لها لأنها تمثل النبع الذي يستقون منه الديمومة والاستمرار. تلك السيرورة الفكرية ليست حياة هذا الشارع المعاصر ولا آليات فهمه لذاته مستقاة من إيديولوجيات الهوية التي صاغت العقل العربي والمشرقي، بل هي مستقاة من مخيال معرفي عولمي مابعد-حداثوي مختلف قوامهُ فكرة "الحرية الذاتية" (ليس بالمعنى الليبرالي الأوروبي لفكرة الذاتي، والذي هو بحد ذاته منطق لا ينتمي لمابعد-الحداثة) وبالتحديد الحرية من مفهوم الهوية واعتباره مفهوماً قاتلاً للذات البشرية في الواقع (ما يقول عنه أمين معلوف "هويات قاتلة"). هذا هو الأساس القاعدي الذي دفع الناس في الشوارع اللبنانية للإصرار على التحرر من منطق الهوية الطائفي والحزبي التصنيميين والركون إلى الحديث عن أنفسهم بصفتهم لبنانيون. بمعنى آخر، لا يقدم الثوار في الشوارع اللبنانية لنا هوية لنبانية بديلة عن الهوية المنزلة من أعلى من الدولة/الأمة.

هم لم يصلوا بعد إلى مرحلة تطوير وخلق مثل هكذا هوية ذاتوية حرة. ما يقدمونه في الواقع هو ما نسميه في علم ابستمولوجيا اللغة: توصيف عن طريق النفي. هم ينفون عن أنفسهم هويات أخرى قوامها طائفي وحزبي وديني وتصنيفي ويصفون أنفسهم بدلالة "لا-انتمائهم" أو رفضهم ورغبتهم بالخروج خارج إطار تعريف الذات هووياً بمنطق طائفي أو حزبي أو حتى قومي أو عرقي. يصر الجميع على أنهم لبنانيون دون أن يقولوا لنا إيجاباً وتقريراً ما معنى أنهم "لبنانيون" ولكنهم يسهبون في تفسير ما لا تعنيه لبنانيتهم حين يرفضون أن يقولوا لنا أنهم مسيحيون أو مسلمون، موارنة أو شيعة أو سنة، من هذا الحزب أو ذاك، أو حتى أنهم عرب أو سريان أو فينيقيون.

ما نشهده في الثورة اللبنانية ليس جديداً على ساحات الربيع العربي التي شهدت حياةً منذ عقد من الزمان ومازالت تصر على الاستمرار. الجديد والمثير جداً للانتباه هو ديمومة تلك الثورة وإصرار شوارعها على تقديم ذوات بشرية مواطنية متحررة من الهويات المؤدلجة ومن المفاهيم التصنيمية المرتبطة بها. هل ستستمر الساحات الثورية في لبنان وتحول هذا الميل الحر الذاتوي إلى ماهية مستدامة. نرجو ذلك، فمن دونه ستموت الثورة في لبنان كما ماتت الثورة في سوريا.   

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024