ستيفان بريزي لـ"المدن": الصراع الطبقي موجود..وأنا أستكمل صور الأخبار

محمد صبحي

الإثنين 2019/02/04
في البدء، كانت هناك صورة. صورة تعود إلى العام 2015، يظهر فيها قادة شركة الخطوط الجوية الفرنسية، بقمصانٍ ممزقة، طاولتها أيدي موظفين وعمال غاضبين، قبل هروبهم تحت حراسة الشرطة، عبر تسلّق السياج. تلك الصورة، الحيوية القوية، دفعت السينمائي الفرنسي ستيفان بريزي(*) إلى كتابة فيلمه "في حرب"(**)، المبنية قصته حول غضب عمال أحد مصانع السيارات من قرار المستثمرين الأجانب إغلاق المصنع، من دون أي مبرر. يتابع الفيلم بطله لوران آميديو (فينسنت ليندون)، المتحدث باسم 1100 موظف يحاولون إنقاذ وظائفهم، في حربه ضد نظام عمل تعسفي، وحروبه الصغيرة الأخرى.

الصورة المفقودة، تلك التي لا توصلها وسائل الإعلام، تلك التي تفسّر غضب مجموعة من العاملين صودرت وظائفهم من قبل مستثمرين لا يقيمون وزناً إلا لتعظيم الأرباح، مع عمليات متكررة لإعادة إعادة توطين وإغلاق شركات ناجحة، فقط لأنها لا تدرّ الأرباح المطلوبة. هذا هو ما يعود به بريزي، بعد ثلاث سنوات من فيلمه "قانون السوق"، مسائلاً آليات طحن البشر في التروس الرأسمالية ومظالم نظام اقتصادي توقَّف عن التزامه بأي قاعدة أو اتفاق. هذا ما يحدث لموظفي شركة بيرين: بعد موافقتهم على الاقتطاع من رواتبهم في سبيل إنقاذ الشركة المتعثرة مادياً في مقابل الحفاظ على وظائفهم، يقرر أصحاب الشركة، من جانب واحد وبلا إعلان مسبق، إغلاق أبواب مصنعها الفرنسي.

من تلك اللحظة، يبدأ كفاح شاق يُلحق لوران آميدو بنخبة شخصيات سينمائية تدوم طويلاً بعد انتهاء الفيلم، كأوفق نتيجة للتعاون بين المخرج والممثل. ليندون، المتوج في "كان" بجائزة أفضل ممثل عن فيلمه السابق مع بريزي، يعالج الدور بتفانٍ كامل، مستعيراً ملامح شخصيته البطولية من تراجيديات الملاحم اليونانية. في "قانون السوق"، لعب ليندون دور رجل خمسيني وجد نفسه عاطلاً عن العمل، وبعد بحثه الشاق، تأتيه وظيفة متواضعة بمعضلات أخلاقية كبيرة. في الفيلم الجديد، تطير الوظيفة بين ليلة وضحاها بفعل فاعل، لكنه يقرر القتال لأجلها، في مواجهة آلهة السوق من شركات متعددة الجنسيات وعابرة للحدود، وفي مواجهة رفاق الأمس من زملائه المستسلمين مبكراً تحت وطأة الحاجة والتزامات العيش. هو فيلم اللحظة بامتياز، إذ يعيد التذكير بأسئلة أساسية وبديهية داخل حكاية لاهثة وموجعة عن أوروبا المأزومة ببطالتها، ومشكلاتها الاقتصادية، ومآزقها الأخلاقية، وأهمية التمسك بالإنساني في مواجهة وحوش تطيح بكل ما لا يولّد ربحاً.

الفيلم، رغم انحيازه الإنساني الواضح وخطابه الصريح، خرج خالي الوفاض من مهرجان "كان" السينمائي (شارك في مسابقته الرسمية، رفقة مجموعة أخرى من الأفلام من بينها "كفرناحوم" لنادين لبكي المتوج بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، لإنسانيته أيضاً).
وهنا حوار مع مخرجه.


- إذاً كانت صورة المديرين في شركة الخطوط الجوية الفرنسية هي الدافع فعلاً وراء الفيلم؟

* هذه الصورة تحدّتني حقاً. بعدما ذهبت لحظة الدهشة، لأن هذه الصورة كانت مدهشة بشكل لا يصدّق، تساءلتُ كيف وصلنا إلى هنا. كيف يمكن للمرء أن يصل إلى هذا المستوى من الغضب؟ وراء العنف، هناك غضب، لكن قبل الغضب، هناك معاناة. حاولتُ دمج انعكاس ذلك التفكير داخل الإشكالية الصناعية الغربية. لقد ظل الناس صامتين لسنوات، وكانوا سيصمتون لفترة طويلة إذا استمروا في العمل، لأن هذا هو النظام. أنا لست ثورياً أو مناهضاً للرأسمالية، لكن من المهم الحديث عن انحراف نظام يسبب الكثير من المعاناة للبشر.

- يبدو لي أن الموضوع الرئيس للفيلم هو عجز العمال. في أزمنة ماضية، امتلكت الطبقة العاملة قدرة تفاوضية، كان هناك ديالكتيك، صراع طبقي في الحقيقة. كل هذا اختفى في العالم المعاصر.

* بالفعل. إنها واحدة من الانتصارات العظيمة التي حققتها السلطة والعالم المالي: أن تقضي على فكرة الصراع الطبقي ذاتها، رغم أنها لا تتوقف عن الوجود أبداً. على مدى عقود، شوّش أصحاب السلطة على النقاش، ففي كل مرة نتحدث عن الصراع الطبقي، تظهر ابتسامات ساخرة. أثناء الإعداد للفيلم، شاهدت العديد من الأفلام الوثائقية: كلهم ​​يخبرون القصة نفسها، أناس يأتون متحدين معاً يقودهم واحد منهم، يجتمعون مع أحد المديرين للاعتراض وتقديم الطلبات. في وقت ما، كنا نطلب ظروف عمل أفضل أو زيادات في الأجور، واليوم نحن نتحدث فقط عن إنقاذ الوظيفة.

- لماذا اختفى مفهوم الصراع الطبقي؟

* اختفاء الكلمات يعني إلغاء حاجات وحقوق جزء من السكان. مؤخراً(***) كنت في مهرجان دوفيل السينمائي، المدينة البرجوازية بامتياز، ووجدت نفسي متورطاً في جدل مع سياسي ماكروني جداً قال لي بنبرة فيها من التكبّر بمثل ما فيها من الشفقة: "أنت تشير إلى أشياء لم تعد موجودة، يمكنك التحدث عن الظروف الاجتماعية، لكن ليس عن الطبقات". لكن الصراع الطبقي موجود، والأغنياء فازوا به. فيلمي يدلي بشهادة حول بذاءة الآلية المالية السائدة. لقد صنعت الفيلم، بمعنى ما، لإضفاء الشرعية على غضب موظفين يتنامى بعد أسابيع وشهور من المحاولات العقيمة للتوصل إلى اتفاق مع أصحاب العمل.

- العمال، إذن، في حالة حرب.

* كل شيء يأتي على حساب الغالبية: العمال. هناك أيضاً العمال المثقفون والمعلمون والصحافيون والموظفون... والمديرون، الذين يمثلون أرباب العمل، هم القادمون في هذه القائمة. أنا لا أصنع خطاباً إيديولوجياً. الحرب موجودة، بالفعل، لكن لم يكن العمال مَن أعلنها، بل الطبقة الحاكمة. يبيّن الفيلم عدم التوازن الكلي في العلاقة بين القوة والهزيمة الكاملة. بفضل القوانين التي صدرت في العقود الأخيرة من قبل الحكومتين اليمينية واليسارية (حكومات شيراك وساركوزي)، تم تفكيك إجراءات الحماية اليوم، وأُغلقت الشركات التي تعمل في مجال الأعمال. في الحقيقة، يتم إغلاقها رغم تحقيقها أرباحاً جيدة، لكنهم يريدون زيادة المكاسب. ذات مرة كان هناك علاقة قوة، وعملية التقدم والتحسين يمكن إنجازها. اليوم لم يعد الوضع كذلك. لا ينبغي للمرء أن يتفاجأ إذا تسيّد المشهد المتطرفون، من مارين لوبان إلى سالفيني، ومن بولسونارو إلى أوربان.

- في أوروبا اليوم، يتزايد الميل نحو الخطابات الشعبوية

* عالمنا قائم على المخاوف، والمخاوف تظهر نتائجها في صناديق الاقتراع. عندما تبني كل شيء على الخوف، فإن هذا يؤدي إلى التصويت للمتطرفين الذين يقدمون إجابات مبسطة وغير لائقة وأحيانًا شاذة. نحن هنا نعطي أنفسنا الوقت للتفكير، لكن هناك بعض الأشخاص ليس لديهم هذا الوقت. إذا استندت الاختيارات فقط إلى الخوف، فإننا نتجه نحو المأساة.

- فيلمك لا يعطي أملاً. نهايته المأساوية تبدو مثل لكمة أخيرة يائسة في وجه المشاهد..

* في الفيلم هناك كل مكونات المأساة. لقد بدأت من الصور المدهشة للمديرين التنفيذيين في الخطوط الجوية الفرنسية الذين هاجمهم العمال. إنها صور الهلوسة، وكان رئيس الوزراء آنذاك مانويل فالس قد وصف هؤلاء العمال بأنهم معتدون آثمون. لكني لا أعتقد أنهم استيقظوا في الصباح وقرروا تمزيق قمصان مديرهم. كانوا صامتين لسنوات، ثم انفجر الغضب. لكننا لم نر قط صورة تشرح لنا كيف ينمو هذا الغضب. ثم قلت لنفسي أنه من الضروري بناء ذلك. إنها الصورة المفقودة في نشرات الأخبار.

- الفيلم مثير وجاذب للغاية، ولا يتنازل في الوقت نفسه عن كونه فيلماً سياسياً. أيضاً هناك تنظيم وتحكم في مسار تصعيد الغضب المتنامي تدريجياً، سواء في شخصية آميدو أو  في العمال الآخرين.

* تعرف أن هناك أربعة غيري شاركوا في كتابة الفيلم. عملنا على حوار وخطاب كل جانب: السياسيين والمديرين والعاملين. كل واحد منهم مُعبَّر عنه، والحكم في الأخير للمشاهد. حاولت عدم خيانة وجهات نظر أشخاص مختلفين، ورفضت السخرية من أي شخص، وقررت إعطاء الجميع مساحة خاصة بهم. لو أني سخرت من المديرين التنفيذيين أو السياسيين، لكنتُ كمَن جرف الأرض تحت قدمه، وبالطبع لن أسلم من هجومهم. في البداية كانت لدي نقطتان واضحتان: نقطة الانطلاق ستكون إغلاق المصنع، والنهاية مع الانفجار التدميري الأخير. أدركتُ أن المشاهد الفردية ضرورية، وأن بإمكانها الإفضاء إلى إلى العنف، لكن في الوسط كانت هناك لحظات من الأمل أيضاً.

- في الحديث عن اللغة، هناك كلمة مفتاحية لصراع الفيلم هي "القدرة التنافسية".

* نعم، وأيضاً "نقص القدرة التنافسية". هذا ضار جداً للعمال، لأنه يلقى باللوم عليهم حتى في حالة العمل الجيد. هذه الكلمة التي نطق بها أصحاب العمل تحجب الواقع، لأنها تختصره كله في الأرباح.


- أعتقد أنك قمت بتجديد جماليات الفيلم السياسي - الاجتماعي بشكل كبير، مقارنة بتقاليد سينما كين لوتش أو الأخوين داردان.

* من المعقد بالنسبة إلي وضع نفسي في مقارنة مع سينمائيين آخرين. بالتأكيد تعرّضت لدور وسائل الإعلام والتلفزيون، لأنه اليوم، إذا كان هناك صراع اجتماعي، يصل التلفزيون على الفور إلى المكان. يحتاج العمال إلى صورة الميديا، لكن هذه الصورة نفسها هي التي تقتلهم. هذا جزء من جدلية الحياة: ما يمنحنا القوة يمكنه إضعافنا كذلك... بصراحة لم أحدد لنفسي مهمة تجديد الفيلم السياسي، لكني كنت واضحاً في رغبتي عدم تحميل المُشاهد مزيداً من الأعباء، وأن يكون الفيلم مثيراً كفيلم تشويقي.

- فيلمك يطرح سؤالاً حول الأسلوب، وكيف يمكنك ألا تقع في التبسيط والتنميط وأن تعثر  على المزيج الصحيح؟

* من المهم بالنسبة اليّ معالجة بعض المواضيع الاجتماعية، مع أخذ مسافة تجاه المشاهد. من الضروري، في مثل تلك الحالات، أن يمشي كل طرف ناحية الآخر. أريد أن أتحدث عن العالم بأكثر الأدوات التفاعلية فعالية، من دون أن يصبح هذا فجّاً. أريد أن يتمكن المشاهد من الوصول إلى هذا، من دون تبسيط أي شيء أو التحايل عليه. أثناء عرض الفيلم في مهرجان "كان" السينمائي - كان الشيء نفسه بالنسبة إلى "قانون السوق" - شعرت أن شيئًا ما يحدث مع الجمهور، أن الرسالة كانت تتردد في قلوب الناس. ما زال العالم شديد القسوة.

- كيف عملت مع فينسنت ليندون على موضوع الغضب، بما إنه أمر مركزي في الفيلم؟

* كان هو الممثل المحترف الوحيد معنا، ومع ذلك استخدمتُ غضبه. لقد وُلِد غاضباً، وفي هذا، هو يشبهني. نشأنا في سياقين اجتماعيين مختلفين، إنه برجوازي، بينما أنا من عائلة متواضعة، لكننا نتشارك هذا الغضب والسخط تجاه الظلم. الممثلون الآخرون جميعهم نقابيون، ويعرفون هذه الحالات جيداً، لديهم فكرة واضحة جداً عن العدالة الاجتماعية. هكذا، يقترب الفيلم من الحياة قدر الإمكان.

- تختلف شخصية آميدو اختلافاً تاماً عن شخصية تييري تاوغوردو في "قانون السوق"، رغم ما يجمع بين الفيلمين من صلات وروابط.

* في الأفلام الثلاثة التي تعاونت فيها مع فينسنت (ليندون)، بما في ذلك "قانون السوق"، كانت شخصيته صموتة ومتحفظة، كما لو كان أخرس. للمرة الأولى، هنا، هو الرجل الذي يأخذ الكلمة، وكلانا رأى أنه حان الوقت للتعبير بصوت عالٍ. إنه ليس خياراً مدروساً، لكني متأكد من أن الشخصية التالية ستظل مختلفة، سنبقى على طريق البحث.

- يبدو أنك تسأل نفسك كثيراً حول حقيقة التمثيل representation.

* إنه كذلك. على سبيل المثال، صورنا النشرات الإخبارية التلفزيونية لتبدو حقيقية، مع مقدمي برامج تلفزيونية ومراسلين، وسألني العديد من المشاهدين عن المكان الذي استعرت منه تلك اللقطات. ظنّوا أنها حقيقية. لكن الحقيقة لا تأتي بالضرورة من استرداد الواقع أو استئنافه. هناك أشياء مصنوعة بالكامل يمكن أن تكون حقيقية في الوقت نفسه، مثل أفلام شارلي شابلن.
التقارير التلفزيونية لا تخبرنا الكثير عن العالم. إذا كان الطبيعي هو أن بعض الناس يكسبون المال بينما تعاني الأغلبية من هذا الوضع، فأنا لا أجد ذلك طبيعياً. في الفيلم، قدمت تقارير تلفزيونية، إنما يدعمها الخيال الروائي لإكمال الصورة الغائبة عن الميديا. وجدت أنه من المفيد تقديم هذه اللحظات في صورتها المعتادة. استعرت تقنيات الوثائقي، لكني لم أصنع فيلماً وثائقياً. يمكنك أن تسمّيه خيالاً توثيقياً.

- هل ستتكرر التجربة في فيلمك المقبل؟

* من الضروري الآن أن أنظر إلى الكيفية التي يعمل بها العالم، لكن ليس بالضرورة أن أفعل ذلك من موقع منحاز للعمال حصراً. هذا تناقض عظيم لأنك، كفنان، سواء كنت روائياً أو رساماً أو مخرجاً، فإنك تتغذى على معاناة العالم. لسوء الحظ، هو يوفر أرضاً خصبة شاسعة لذلك.

(*) ستيفان بريزي (1966 – رين، فرنسا) وُلد لأسرة متواضعة، وتلقى دراسة مهنية في مجال الإلكترونيات قبل أن يتجه نحو الدراسات السمعية البصرية. عمل في البداية فنياً في مجال التصوير التلفزيوني، وفي الوقت نفسه درس المسرح. أخرج عدداً من النصوص المسرحية، ثم تحوّل إلى السينما. في عام 1993، أنجز أول أفلامه القصيرة، وفي العام 1999 ظهر أول أفلامه الطويلة بعنوان "زرقة المدن". فيلمه الثاني "لست هنا لأكون محبوباً" (2005)، من بطولة باتريك شيزنيه، رُشّح لثلاثة جوائز سيزار. فيلمه الثالث لم يحقق أي نجاح. لكنه بعد ذلك، سيلتقي بالممثل فينسينت ليندون الذي سيضطلع ببطولة أربعة من آخر خمسة أفلام له: "الآنسة شامبون" (2009) و"بضع ساعات ربيعية" (2012)  و"قانون السوق" (2015) و"في حرب" (2018).

(**) عُرض الفيلم مؤخراً في بيروت ضمن فعاليات النسخة الخامسة والعشرين من "مهرجان السينما الأوروبية في بيروت".

(***) أجرى هذا الحوار في تشرين الثاني/نوفمبر 2018.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024