جان بيار سيميون يؤكلج العالم

روجيه عوطة

الخميس 2019/04/25
لا يزال ايمان جان بيار سيميون (1950، باريس) بالشعر على حاله. فبعد عقود من كتابته، يفتتح مجموعته الجديدة، التي حملت عنوان "انهضوا من الضريح" (دار غاليمار)، بدعوة إلى حُكمٍ، يستلمه الشعر برفضه. إذ انه، وحين يفعل ذلك، ستعم العالمَ، الفوضى المرغوبة أو الحرية التي لا داعي للاعتذار عنها، وستجعل كل سجاياه فالتة. وعلى إثر عهده الجديد هذا، سيزدحم بالشعراء، الذين "لا يقرضون الحياة، يعطون بلا مقابل، لكنهم، لا يعطون سوى ما لا يملكون". بكل هذا الكرم، ينقذ الشعر العالمَ، ليس من البشاعة، فهي ستظل موجودة فيه، إنما من ابتعاده عن الحياة، التي ستصير على مقربة منه.

جميلة مبالغة سيميون فعلاً، الا انها ليست مبالغة خالصة. فعندما ينقلها إلى تخييله، وهو نقل يرادف الإيجاد، أو الابداع، تتكشف عن كونها شكلاً من الهشاشة، أو من الخفة. وهو، بداية، يستخلصها من الطبيعة، ليكون الطير حيوانها، الذي، وحين يمر فوق المدن الكبرى، تبدو شبيهة بمدافن تحته، مبيناً بتحليقه كل سكونها الذي لا تتوقف عن الانهيار فيه.

فمهما حاولنا تدجين دنيا ذلك الحيوان، تخريبها، استغلالها، مواصلة مشروعنا الإنسي العظيم حيالها، يكفي ان يحرك جسده الصغير في هوائنا، أن ينظر، وبطمأنينة، إلى زمننا يقطع فضاءنا، حتى يغدو قبضُنا على دنياه هباءً بهباء. فالحيوان، ودنياه، وكصوت ارتطام جناحه بصدى ضجيجنا، يتحول إلى وجود مواظب، في حين اننا نصطحب عالمنا إلى زوال عاجل. مرد هذا انه، وعلى عكسنا، نحن الذين يرعبنا الموت إلى درجة اننا نسرع الخطى اليه قبل أن يبلغنا، "لا يهجس في الموت المقبل، إنه لا يفكر، يجعل من حضوره شيئاً عادياً، صبراً ينضج 
كفاكهة".

نافل الايضاح ان تخييل سيميون هو "ايكوشعري"، ليس بسبب استدعائه لحالات البيئة واوضاعها، إنما لأنه يشيد، وفي كل قصيدة من قصائده، خانتين. واحدة لعالمنا، واخرى لأكلجته (من ecologie) وعندها، يستدعي الحيوان، أو النبت، أو الماء، لكي ينقل عناصر الخانة الأولى إلى الخانة الثانية. فما يبدو، مع القراءة الابتدائية، مقارنة بين الحضارة بما هي مذهب دماري، والطبيعة بما هي كل مدمِّر، ثم التفضيل بينهما، ليس كذلك. إنما هو تنبيه إلى كون الحضارة، ومع نفي صلتها بالطبيعة، صارت على مذهبها، ما جعل الطبيعة تغدو على ثأر منها.

في هذا السياق، يحاول شِعر سيميون أكلجة العالم. الأمر الذي لا يتعدى بناء الموضوعة إلى انشائها الجملي، الذي، وإذا صحت تسميته بالبيئوي، فلأنه أيضاً لا يستنزف القول للوصول إلى معنى، أو كي يسرف فيه. فعلى كل حال ومآل، الشعر، وبأطرزته المختلفة، هو قول ايكو-لُغَوي بإمتياز، لا سيما من ناحية تحويله الاقتضاب إلى مجال للتكثير الملحن، أو الموزون، بلا أن تعني هذه الصفة طرزاً بعينه، رافعة اياه على غيره. "ما هو الشعر اذا؟ انه قول انسي/ يتعصفر/، وفي هذا القول الطالع، انطلاق صاحبه في نفسه، في أعلى نفسه، يبقى بين موت الأوراق، ولهب الشموس". 

ولا يعني  الشعر "عصفرة" القول الإنسي، جعله يعمّر معنى على مزايا الطير، فحسب. بل تشجيره، جعل معناه على مزايا الشجرة، أيضاً. فالاشجار "تقبل ما يحصل لها من الأرض المظلمة والغائرة... باستخفافها تؤشر في خملة المساء للعشاق الوحيدين، للحيوانات الهائمة، للأرواح التائهة... شيء بلا باطنة، بلا ندم، لا يعد أوراقه، ولحاؤه تبتلع جروحه".

على هذا المنوال، منوال التقريب، بالقول، باللغة، بين العالم الإنسي والعوالم الأخرى، يصير الشعر، بحسب جان بيار سيميون، معبَراً لسكان المعمورة إلى بيئاتها الطبيعية. وهذا لكي يتحلوا بها، بحيث أنهم، ومن دون هذا التحلي، يصير نزوعهم إلى الحفاظ عليها مجرد تعليق لاستنفادهم لها، وهو في الواقع، تعليق لا يدوم، بل سرعان ما يبدأ من جديد، فيعود العالم ضريحاً! 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024