في سجال الجامعة الأميركية

بشار حيدر

الثلاثاء 2019/06/11
في مقالته عن السجال القائم حول الجامعة الأميركية في صفحات هذا الموقع، يرى صديقي وزميلي سامر فرنجية ان أطراف هذا السجال (او بعضهم على الأقل) ليسوا إلا صورة مقلوبة عن الآخر. فما يُلهم الطرفين، بحسب فرنجية، هو تصور ثابت لطبيعة هذه المؤسسة الأكاديمية ينبع من منشئها. فالطرف الرافض لها يرى فيها "خارجاً أجنبياً يلوث الداخل الطاهر" ويجب استئصاله، فيما الطرف المدافع يراها "اختراقاً حضارياً وتنويرياً" يجب الدفاع عنه.

لا ينطبق وصف فرنجية، ولا هو يدعي ذلك، على بعض منتقدي الجامعة الأميركية الذين عبّرت عنهم مقالة الصحافية عزة الحاج حسن، والتي افتتحت هذا السجال. فهولاء المعترضون على أداء الجامعة لم يوحوا بشكل مباشر أو غيره أن الجامعة مرفوضة كونها جسماً أجنبياً يلوّث ثقافتنا. إنما نسبوا (زوراً بحسب قناعتي) ممارسات غير سليمة لبعض أفراد إدارة الجامعة. أما الأصوات الأخرى المنتقدة للجامعة، وباستثناء صوت منفرد أقرب الى الفكاهة منه الى الجدية، فلم تطالب يوماً بإغلاق هذه المؤسسة الغربية أو تأميمها. إنما تتبنى تلك الأصوات مقولات يسارية شائعة في الجامعات الغربية بشكل عام، كرفض النيوليبرالية، والدفاع عن حقوق الموظفين، ومجابهة الإستابلشمنت وما الى ذلك.

أما المدافعون عن الجامعة، فلا يمكن وصفهم بأنهم ممن ينزّهون الجامعة وإدارتها عن الخطأ. فقسم منهم قام فقط بالرد على ما اعتبروه اتهامات زائفة طاولت أحد أكاديميي وإدارييي الجامعة. أما مقالة الصديقة رشا الأطرش، موضوع مساجلة فرنجية، فقد ألقت الضوء أساساً على شعبوية وزيف الانتقادات التي تساق ضد مؤسسة أكاديمية على قدر كبير من النجاح (خصوصاً إذا ما قورنت بغيرها من المؤسسات الأكاديمية في لبنان والدول العربية المجاورة). فمقالة الأطرش لا تفترض أو تستدعي مبدأ عصمة الجامعة الأميركية في بيروت، أو أية مؤسسة أخرى غربية المنشأ. ولا أرى أنها تدّعي او تلمّح الى وجود جوهر اصيل وحميد للجامعة يعفيها من أي نقد أو يطهّرها من أي صيرورة تاريخية. كما لا يُستشف من المقالة أي رفض لحق أساتذة الجامعة وطلابها وموظفيها أو سواهم في انتقادها ونشر ذلك في الحيّز العام. انما تتصدى مقالة الأطرش تحديداً لما تراه شعبوية لا تُصلح الفاسد بل تُفسد الصالح، ولا تتورع عن بث حملات افتراء وحقائق زائفة حول الجامعة وعملها. إنها شعبوية لا تختلف كثيراً في أسلوبها وأدواتها عن شعبويات أخرى مستشرية في لبنان وخارجه.

لا شك أن مقالة الأطرش تربط تلك الشعبوية بأجواء الممانعة الطاغية في العديد من مجالات الحياة الفنية والثقافية والأكاديمية في لبنان. وليس للشعبوية والممانعة، المعاني والدلالات ذاتها. فليس كل ما هو شعبوي ممانعاً بالضرورة أيضاً. والعكس صحيح. لكن، إن كانت الشعبوية والممانعة مفهومين منفصلين، فإنهما كثيراً ما يتقاطعان على الأقل في بلد كلبنان. فهيمنة قوى الممانعة وسطوتها الرسمية وغير الرسمية في السياسية والأمن وغيرهما، تشجعانها دائماً على مد تلك السطوة وفرضها داخل المؤسسات ومنها الجامعات طبعاً. وهذا بدوره يستحضر الأصوات الشعبوية التي غالباً ما تستهويها تلك السطوة وترى من خلالها فرصة للعب دور الضحية المزيف في ظل مناعة توفرها لها هيمنة قوى الممانعة. إن الحيّز الذي تلتقي فيه الشعبوية بالممانعة ليس بالضيق أبداً. لذا من غير المستغرب أن تشكل تُهمتا الفساد والخيانة الأداتين الأكثر حضوراً في المناخين الشعبوي والممانع على السواء.

تناظر مقالة فرنجية وتنقد موقفاً متخيلاً لم تدّعِهِ ولا تبنّته الأطرش أو غيرها عن وجود طبيعة حميدة للجامعة ينشأ عن مصدرها الغربي. لكن في الوقت نفسه، لا يمكننا إنكار أن علاقة الجامعة بمنظومة المؤسسات الأكاديمية الغربية، والأميركية تحديداً، ليست أمراً عابراً في استمرارية ونجاح الجامعة. فالسعي الدائم للجامعة في بيروت للتماهي مع الجامعات الأميركية، والأخذ بنظمها ومعاييرها، يفسر الى حد كبير قدرة الجامعة في بيروت على الحفاظ على قيمتها البحثية والتعليمية التي يعترف بها ضمناً وعلناً حتى أشد منتقديها. بل إن الكثيرين من المعترضين على أداء إدارة الجامعة ينطلقون مما يرونه ابتعاداً عن أو مخالفةً من قبل هذه الإدارة للمعايير والنظم التي تحكم الجامعات في الولايات المتحدة. لذا فإن ما يعزز الجامعة الأميركية في بيروت ويحمي قيمتها الأكاديمية، ليس لحظتها التأسيسية قبل أكثر من 150 عاماً، بل هو حرصها المتواصل على استمرارية ذلك الارتباط بالمنشأ، وإصرارها النابع من حاجتها لأن يُعترف بمستواها وأهليتها الأكاديمية من قبل جامعات المنشأ تلك. ووعي الجميع، بمن فيهم الكثيرون من الشعبويين والممانعين، لهذه الحقيقة، هو ما يعطي الجامعة في بيروت حصانتها. فحتى أصحاب الميل الشعبوي والممانع أنفسهم من أستاذة، وطلاب، ومن موظفي وإداريي الجامعة، يدركون بقوة أن قيمة جامعتهم وشهاداتها تعتمد على استمرارية هذا الارتباط بالجامعات الأميركية، كما على نظرة المؤسسات الأكاديمية الغربية إليها.

ربما كان من المؤسف أن يكون الارتباط والتماهي مع مؤسسات الغرب الأكاديمية واستجداء اعترافها شرطاً للنجاح. لكنه يبدو كذلك في ظل استمرار غياب اية قدرة ذاتية على وضع المعايير السليمة والالتزام بها. وهذا ما يفسر دعوة كريم صفي الدين في خطاب التخرج، الذي ألقاه باسم الطلاب، إلى التضامن مع طلاب واساتذة الجامعة اللبنانية. إنها تلك العلاقة المتواصلة مع جامعات المنشأ أولاً، وليس الفرق الطبقي، ما يجعل من قبيل الفانتازيا الكوميدية تخيُل ممثل طلاب الجامعة اللبنانية وهو يدعو جامعته الى التضامن مع طلاب وأساتذة الجامعة الأميركية.

أخيراً، وبغض النظر عن الجامعة الأميركية في بيروت والسجال حولها، قد توحي مقالة فرنجية للبعض، وإن عن غير قصد الكاتب في رأيي، أن هناك نوعاً من التساوي أو التوازي بين الطرف الشعبوي والممانع في لبنان و"صورته المقلوبة". لذا، من المهم التنبه الى أن ساحة الخلاف بين الطرفين ليست متكافئة، بل تميل بشكل واضح لصالح طرف دون آخر. فهناك فرق كبير مثلاً بين المحاولات الخجولة والخائفة التي قام بها بعض الطلاب للتعبير عن تعاطفهم مع محنة الشعب السوري عبر الاحتجاج الصامت أمام بعض مؤيدي النظام السوري من ضيوف الجامعة، وبين الفظاظة والتهديد والترهيب المعنوي واللفظي الذي يصدر عن قوى الممانعة في الجامعة في مواجهة "محاولات التطبيع" المستندة على سطوة هذه القوى في الشارع والدولة.

إن دعوة فرنجية لعدم الوقوع في فخ التدنيس أو التقديس المطلق وغير المشروط، دعوة مقبولة وضرورية. لكنها يجب ألا تقودنا الى تذويب أو تمييع الفوارق الأخلاقية. ففي حين أنه من الخطأ، مثلاً، تنزيه وتقديس ثورة الشعب السوري، فإن ذلك لا يعني أن منزهي تلك الثورة هم الصورة المقلوبة للمدافعين عن النظام من حلفائه. كذلك هو الأمر مع اغتيال رفيق الحريري، والذي كان جزءاً من السلطة السياسية. فمن الخطأ طبعاً تنزيه رفيق الحريري. لكن المناداة بعدم تنزيهه يجب ألا تنتهي بِنَا الى القول أن المدافعين عنه، أو حتى المنزهين له، هم مجرد صورة مقلوبة للمدافعين عن قَتَلته.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024