سكان الخجل الطائفي في الستينات اللبنانية

محمد أبي سمرا

الخميس 2019/05/16
أقمتُ مع أهلي وبعض أقاربي 13 سنة (1963 - 1975) في الطيونة، شارع شاهين، في الطرف الشمالي من الشياح وضاحية بيروت الجنوبية. ومضى أكثر من 40 سنة على انتهاء إقامتي هناك، من دون انقطاعي عن الشياح زائرًا ومستطلعًا ملامح تحولاتها العمرانية وتحولات بعض أحياء الضاحية الجنوبية في سير أشخاص من أجيال سكانها "الأصليين" والوافدين.

الأهل والجيران
واليوم يحضر العمران والاجتماع في شارع شاهين والطيونة في ذاكرتي ووعيي ومخيلتي مختلفًا عنه في سائر أحياء الشياح الأخرى الداخلية. فالتجانس الأهلي والقرابي لم يكن يغلب على سكان الطيونة الذين لم يكونوا أهلًا ولا أقارب، بل جيران متنوعين طائفيًا، وتوافدوا إلى الإقامة من مناطق متباينة. وهم في هذا كانوا يقتربون من صورة ما للتخالط السكني الذي صاغته فئات جديدة من اللبنانيين في أحياء بيروت وضواحيها غير الأهلية والقرابية في الربع الثالث من القرن العشرين (1950 - 1975).

كانت تلك الحقبة مفصلية في تاريخ لبنان الاجتماعي، والسياسي استطراداً: أهالي القرى والمناطق (الجنوبية والبقاعية خصوصًا) انتقلوا بكثافة غير مسبوقة إلى ضواحي بيروت، فأنشأوا فيها عمرانًا جماهيريًا كثيفًا. أبناء الجيل الجديد الناشئ في ضواحي العمران الجماهيري أقبلوا إقبالًا واسعًا على التعليم، خلافًا لأهلهم الذين لم يكن التعليم قبلتهم ولا رأسمالهم الاجتماعي والمعنوي في القرى الجنوبية. أبواب جديدة شُرّعت واسعة لكثرة منهم في العمل والمهن المحدثة والوظائف المتنوعة في القطاعين العام والخاص في المدينة. 

عجز الديموقراطية اللبنانية
أدت هذه الظواهر وسواها إلى تسارع وتائر الزمن الاجتماعي وحراكه في بيروت وضواحيها، وفي ما يتهيأ لي أنه الزمن اللبناني في الستينات. فعلى الرغم من تباين ثقافات فئات اللبنانيين في ذلك الزمن الاجتماعي وتفاوت حراكها، نشطت ما تسميه الاجتماعيات "المثاقفة الاجتماعية". وهذه ركنها اختلاطٌ في دوائر السكن والعمل والتعليم والحياة اليومية، وتواصلٌ بين "أفراد" من منابت وبيئات وثقافات متباينة. وكانت "المثاقفة" في تلك الحقبة من المرايا الميكروسوسيولوجية التي تعكس وجهًا من وجوه الديموقراطية الاجتماعية والثقافية والسياسية اللبنانية، وركنها الأساس التنوع الاجتماعي والطائفي، والاعتراف به وممارسته بلا رقيب أو وازع سلطوي قاهر من خارجه.

لكن الديموقراطية اللبنانية - وهي موروثة عن أعراف وعلاقات واشكال تنظيم اجتماعي وتمثيل سياسي يختلط فيها البلدي والأهلي والعائلي والطائفي، وتعود إلى تقاليد القرن التاسع عشر، وتغيرت على نحو متفاوت وبطيء، ومن دون أن تبتكر أطرًا وهيئات وأشكالًا جديدة للتعارف والعلاقات والمثاقفة والتمثيل السياسي - عجزت عن استيعاب الفيض الجماهيري المتدفق إلى المدينة وضواحيها، وعن تأطيره في سياقات اجتماعية وسياسية منظمة ومتماسكة. لذا راحت أجيال العمران الجماهيري الجديدة تبحث عما يخرجها من عريها الثقافي وتمزقها الاجتماعي.



شِيَع وجماعات حزبية
في غمرة بحث أبناء تلك الأجيال عن ناظم ما لتذرها وتيهها، لم يجدوا سوى شلل سبقهم مؤسسوها المتساقطون على هوامش جماعاتهم ومراتبها الأهلية والعائلية والطائفية، في إنشائها أطرًا لتعارفهم وتواصلهم ومثاقفتهم. وأنضوت في تلك الشلل أجيال جديدة، فتوسعت وصارت عُصبًا وشِيعًا حزبية منكفئة متوترة. وطوال ستينات القرن العشرين وسبعيناته، تضخمت الشيع والجماعات الحزبية وداخلها عامل جديد غداة هزيمة حزيران 1976 العربية: نصرة المنظمات الفلسطينية المسلحة والاستقواء بسلاحها والانضمام اليها. وهكذا تضخمت صور المنضوين في العُصَبِ والشِّيع الحزبية عن ذواتهم وأفعالهم وأدوارهم ثأرًا من تساقطهم المرتبي وهامشيتهم، وتزايدات وتأثر نشاطهم الدعوي والتحريضي المرتهن إلى إيديولوجيات خلاصية، طبقية وقومية متخيلة ومنفصمة عن سيولة الوقائع الاجتماعية. وفي غمرة عالمهم الفصامي لم تتوقف صراعات مؤسسي الشّيع الحزبية وانشقاقاتهم الداخلية المتناسلة. وهذه كانت حال الشلل والأجهزة والأحزاب الشيوعية والقومية البعثية والسورية الاجتماعية.

مَن عجزت ديموقراطية التنوع الاجتماعي والطائفي اللبنانية التقليدية، عن استيعابهم وإدراجهم في أطرٍ وسياقات اجتماعية وسياسية جديدة ومتماسكة، أخذهم في الربع الثالث من القرن العشرين ذلك الضرب من الانتماءات والأنشطة الحزبية والعقائدية في تلك الحقبة اللبنانية والعربية القلقة والمضطربة. والحروب الأهلية الملبننة (1975 - 1989) كانت في وجه من وجوهها من نتائج ذلك العجز اللبناني المتمادي عن إدارة التنوع الاجتماعي والطائفي وسوسه في زمن التدفق الجماهيري إلى المدينة وضواحيها. وهو تدفق لابسته استقطابات وتشققات أهلية متمادية، وحريات لبنانية فوضوية تفتقد إلى ناظم/هيئات ومنظمات تدرجها في سياقات ومسارات غير ممزقة ومشرذمة. والأرجح أن تنامي الحزبيات وتضخمها مع تلك الاستقطابات والتشققات، كانت في وجهٍ من وجوهها جوابًا سلبيًا على خمول الأطر والمؤسسات والوسائط الاجتماعية والسياسية اللبنانية، جمودها وتقادمها وفواتها واستنقاعها المزمن، وانعدام قدرتها على استقبال سيولة الحراك الإجتماعي المتدفق في تنوعه وحريته الفوضوية في تلك الحقبة.

سياسة التنوع الطائفي
لكن التنوع الاجتماعي والطائفي اللبناني، وحريته في الخمسينات والستينات، كانا مشوبين بما سماه أحمد بيضون "خجل" اللبنانيين من الطائفية ومن ممارستها عاريةً ومنفلتة في حياتهم اليومية العامة والخاصة، وفي إدارتهم شؤون اجتماعهم وتصريفها. وذلك مقارنةً بما هم عليه اليوم وقبله في أزمنة حروبهم من استرسالٍ فاحش ومستميت في جعل الطائفية نواة صلبة تصدر عنها أشكال وعيهم وخلافاتهم وتصريف شؤونهم كلها. ففي ذينك العقدين، كانت خافتةً بَعدُ انتماءاتُهم وهوياتهم الطائفية في تخالطهم وتعارفهم وتواصلهم وتخاطبهم في دوائر السكن والعمل والحياة اليومية. ولربما كانت طائفيتهم طرية العود بعدُ، ولا تستنفد اجتماعهم الجديد والطري العود بدوره، ولا يحتاجون إلى إرسائه كله على العلاقات والولاءات الطائفية.

هل كانوا يتسترون على طائفيتهم، هل كتموها وتركوها في هوامش اجتماعهم وحياتهم اليومية؟ لا لم يفعلوا ذلك على الأرجح. فهي كانت خافتة أصلًا وفي طور جديد ومتحول من أطوارها. وهو طور انتقالي شهد موجة واسعة من الانتقال من الأرياف إلى المدن، والتمدين، والتعليم، وتوسع أجهزة الدولة الحديثة ومؤسساتها، والأعمال الجديدة المحدثة. وفي هذا كله كانو مضطرين إلى إرساء تواصلهم وعلاقاتهم على أسس غير طائفية في وجهٍ من وجوهها، وطائفية في وجه آخر وفي وقت واحد. وهذا يعني أن طائفيتهم اجتماعية – سياسية، ليست معطىً ثابتًا وجوهريًا في تكوينهم على الرغم من أساسيتها في بنية اجتماعهم وحياتهم السياسية. فهي تلتهب وتخفت حسب المراحل والظروف والمناسبات والمنازعات والمسارات والتحولات الاجتماعية والسياسية.



تعاويذ الطائفية
فحين انزلقوا إلى انقسام أهلي - طائفي دامٍ، صغير وعابر سنة 1958، سرعان ما طووا صفحته ونسوه كأنه لم يكن، ورفعوا شعارهم الشهير: "لا غالب ولا مغلوب". وفي مطلع الستينات استأنفوا تجنّب طائفيتهم متطهرين منها، أقله فولكلوريًا وكلاميًا، فغنوا مع صباح: "وينن هالدبيكي وين/وين محمود وين معروف وين الياس وين حسين؟". لكن غيلان الطائفية استفاقت من سباتها "التاريخي"، فدهمتهم وعصفت بهم، كأنما في غفلة منهم. وعشية استفاقتها كتب وضاح شرارة (1974) كتابه "في أصول لبنان الطائفي" فبيّن أن "خجل" اللبنانيين من طائفيتهم كان نوعًا من الكفّارة، أو من مداواتها بالكلام الخطابي وخداع أنفسهم في حفلة زارٍ تنكرية يتبادلون فيها تمائم ورقىً وتعاويذ يتوهمون أنها إكسير شفائهم من الطائفية. وفي صبحية من صباحات انصرام "خجلهم" الطائفي وعودة مكبوتهم الطائفي، استيقظ الشاعر الراحل محمد العبدالله وأطل من النافذة، ففوجئ بأن "المسيرة الكبرى، الثورية، الملحمية والتقدمية" المزعومة في تمجيد الأوطان والبطولة والنضال والشهداء ليست سوى حربٍ أهلية طائفية.

لكن هذا كله لا يعني أن اللبنانيين كانوا منقادين بإداراتهم وعن سابق تصورٍ وتصميم إلى حروبهم الطائفية والأهلية، بل ساروا على دروبها سادرين وضبط عشواء، غير مدركين أن طائفيتهم "الخجولة" سوف تنجلي عن ذلك الضرب من الحروب.

المكبوت.. حربًا؟
ولعل سكان شارع شاهين والطيونة كانوا مثالًا على انسلال الحرب إلى شارعهم ومنطقتهم من خارج حياتهم وعلاقاتهم واجتماعهم وإرادتهم. هذا ما حملهم على الانكفاء عنها (الحرب) خائفين، ثم هربوا مندهشين من تدفق مسلحين لا يعرفونهم، وندُرَ أن شاهدوا أحدًا منهم قبل انتشارهم بين البنايات وعند زواياها وعلى سطوحها، وفي مفارق الطرق المؤدية من شارعهم إلى طريق صيدا القديمة وعين الرمانة المقابلة. والحق أن حالهم في غفلتهم ومفاجأتهم وانكفائهم وفرارهم بعد زمن تخالطهم، كانت حال كثرة من سكان أحياء بيروت وضواحيها في بدايات الحرب (1975) التي تفشى دبيبها في أحيائهم من خارجها، وقوّض تلك "المثاقفة الديموقراطية الطائفية وغير الطائفية" التي عاشوها طوال الربع الثالث من القرن العشرين، على الرغم من ضعفها وهشاشتها وضيقها، بل ضمورها وفواتها.

في زمن "المثاقفة" تلك كان سكان شارع شاهين يمارسون طائفيتهم الخافتة غير خائفين منها، ولا يقيمون رقيبًا عليها إلاّ من أنفسهم، وبقدر ما تتطلبه إقامتهم الجديدة من تعارف وتواصل في ما بينهم، ويحملانهم على إقامة فواصل ومسافات بينهم وبين منابتهم ومصادرهم الأهلية والطائفية السابقة. وهذه كانت حال لبنانيي التساكن المختلط طائفيًا في المدينة (بيروت) وأحياء ضواحيها غير الناشئة على مثال سكن أهلي وقرابي متكوكب يحنو إلى التجانس، شأن شارع شاهين والطيونة اللذين لا شك في أنهما صغيران وجزئيان في لوحة العوالم الاجتماعية الكثيرة، الواسعة والمتباينة الأشكال والألوان والتحولات في تلك الحقبة من تاريخ بيروت الاجتماعي وضواحيها. لكن صغرهما وجزئيتهما لا يحولان دون الوصف الميكروسوسيولوجي لعالم ذلك الشارع ومقاربته في مرآة تجربة "التثاقف" اللبناني وصورها ومصائرها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024