وزيرة "الهيبة والكرامات"

رشا الأطرش

الثلاثاء 2020/05/19
على رأس لبنان اليوم سلطة ذات مخطط واضح: مَن ليس معنا، فليلزم الصمت. العهد، الحكومة، الإدارات والصناديق، حاكم مصرف لبنان، المصارف... كل من يرفع صوتاً بالنقد، بالاحتجاج، بالحقيقة.. مُطارَد. مِن الغيلان مَن يمتلك جهازه التشبيحي الخاص، كالذي اختبره الزميل محمد زبيب. ومنهم مَن يشبّح بأجهزة الدولة وأزلامها. تارة بتهمة القدح والذم، وطوراً بتُهم الأخبار الكاذبة وتضليل الرأي العام. والتهمة الأكثر إبداعاً وطرافة: تشويه السمعة المالية والاقتصادية للبنان، الذي يُذلّ مواطنوه على أبواب المصارف -المتترسة بالحديد الآن- للحصول على نزر يسير من مدخراتهم أو رواتبهم، يحدده موظف مجهول في مكتب مُتوارٍ. وحتى هذا النزر المقنن يُصرَف لصاحبه بخسارة تتفاوت نسبتها بحسب سعر الصرف الذي يروق لهذا المصرف أو ذاك. "مَن ليس معنا، فليلزم الصمت، وإلا.."، ستتم مضايقته. قد يحضر شبان مثل طرابين الحبق إلى بيته، يُسائلونه بعيون وقحة، أو يسألون عنه أهله. وقد يأتيه الهاتف الداعي "إلى فنجان قهوة" في مقر أمني. وقد يُعتقل ويُرهَب، ولا شيء يضمن أنه لن يُضرَب أو يُبتزّ أو يُعذّب. "فليلزم الصمت". والصوت نقيض الصمت، يتمثل اليوم، أكثر ما يتمثل، في بعض الإعلام والإعلاميين، وصنّاع الرأي في شبكات التواصل الحر، الذين ما زالوا يأبون مبايعة حكومة العهد وحزب الله، وزيراً وزيراً، وشبحاً شبحاً، وخطةً خطة، وفشلاً تلو فشل تلو انهيار.

هذه سلطة تعلّمت الكثير من انتفاضة 17 تشرين المُغرَقة الآن في غيبوبة قسرية وموضوعية. والدرس الأهم: البث والنشر سلاح خطر، يجب لجمه، والآن أكثر من أي وقت، فيما ننزلق إلى قعر الهاوية. في نظر السلطة، وخططها المتسربة ملامحها من تصريحات وزيرة الإعلام، فإن المحاسبة والرقابة يجب أن تكونا للسلطة على الإعلام، وليس العكس. والخوف كل الخوف من تعاضد أو مناصرة، ولو جزئية، بين بعض الجسم الإعلامي المحرر، وبين قضاة ونقابيين متمتعين بمصداقية. وبالتالي، فإن الأساليب القديمة المتجددة، من ترهيب، واستدعاءات للصحافيين، بلا مسوغات قانونية، ومن قِبل "مكاتب" غير ذات اختصاص أو صفة، مع حفظ غموض أسباب الاستدعاء ومحرّكيه لمزيد من "الإثارة والتشويق".. هذه الأساليب ما عادت وحدها كافية، وإن كان محبذاً استمرارها لتعميم الفائدة.. ومن دون أي تعليق أو حتى سؤال تطرحه وزيرة الإعلام منال عبد الصمد، التي تحدثت عن كل شيء إلا تجاوزات أجهزة الدولة والأمن المختلفة في حق إعلاميين ومدونين وناشطين في الشأن العام.

هذه سلطة تعمل على قانون سرّي، على قاعدة "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان". تجتهد وتجدّ في تدبيج تعديلات/تشوهات ما زال معظم تفاصيلها مُجهَّلاً، لكن الواضح كالشمس أنها ستعتري اقتراح قانون الإعلام المقدم منذ عشر سنوات وما زال عالقاً في لجنة الإدارة والعدل النيابية. فلا أحد يعرف بنود هذه التعديلات، إلا ما تمرره الوزيرة عبد الصمد، بالقطّارة والإبهام، تصريحاً من هنا، ونفياً أو "توضيحاً" من هناك، وهي في الحقيقة لا تزيده إلا ريبة. فعقوبة السجن التي "يجب ألا تكون في إطار موسع"، تمسي في توضيحها "حرية مطلقة للإعلام في ما خلا حالات القتل والتعدي على الآخرين وشرفهم"، وكأن جنحاً وجنايات من هذا النوع، إن اقترفها إعلامي أو موظف بنك أو سنكري، ترتبط بمهنته وقوانينها الناظمة. ثم هناك "المسّ بهيبة الدولة وأركانها الأساسيين"، و"الأمن القومي والكرامات".. تلك العبارات الديناصورية التي كلما حاولت معالي الوزيرة شرحها وتلميعها، كلما غرزت أعمق في وحل البوليسية، والشمولية، والاستبدادية، رغم عطر الحرية الذي تحرص على أن تضمخ به خطابها كل يوم. نعم، كل يوم. باتت تظهر كل يوم تقريباً، في شاشة أو موقع الكتروني أو إذاعة، وليس فقط لقراءة مقررات مجلس الوزراء. "من يشتُمك، إشتُمه"، قالت لأحد المراسلين، وذلك "عملاً بقناعتها بعدم الادعاء على الإعلاميين"، كما يتطوّع صحافيون شارحين مقصد معاليها.

والدولة مُحرّمة على الناقدين، هيبتها هيبة بطريرك في عهد "بيّ الكل". أركانها ليسوا مسؤولين، ولا مناصب مُتداوَلة تدير الحياة التي صارت الآن أزمات. هم هيولات مقدسة. ومشاعر أنصارهم/أطفالهم مرهفة، خدشها جريمة. والكرامات؟! على أساس أننا شلّة أصدقاء في ما بيننا. والأمن القومي، الذي لا أحد يعرف له تعريفاً واضحاً، سيما في زمن الجوع والوباء والاعتقالات.

وزيرة الإعلام قلبها على الإعلام العام أولاً. أحياناً تذكر معه الخاص، وفي أحيان أخرى تغفل هذا الخاص براغماتياً. تريد إعلاماً عاماً محيداً عن التأثيرات السياسية، كما في بريطانيا. بريطانيا، حيث دافع الضرائب يمول الإعلام العام مباشرة، ليجعله عاماً بالفعل، وليس رسمياً، وهذا الإعلام بدوره يعمل بأجندة المواطن المموِّل، وحده لا شريك له، في مجتمع يحيا على النقاش والنقد، لا موضوع فيه ممنوعاً، ونظامه الديموقراطي مكرّس ومستقر. وكيف تسعى معاليها لتقريبنا من النموذج البريطاني؟ بهيئة ناظمة وجهاز رقابي "مستقل". الوزيرة التي، ككل زملائها، دخلت الوزارة بتوازنات ومحاصصات سياسية وطائفية، تريد درء هذه الكأس عن الإعلام العام. كثّر الله خيرها. لكننا لا نعرف أي ضمانات تضمن استقلالية هذه الهيئة، وفي البال ما زالت طازجة تجارب الهيئات المماثلة، والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع.

يُحكى عن تراخيص مسبقة، في زمن الفضاء المفتوح. وعن نقابة إلزامية، هي نفسها النقابة التي ما زال معظم الإعلاميين خارجها بلا حقوق أو ظَهر، ما معناه أن هذه النقابة مرشحة لحظوة من السلطة، والحظوة عادة صلاحيات مُجيَّرة. السلطة لا تسعى إلى توسيع كيان نقابي ليناصر أعضاءه ضد قمعها، بل إلى نفخ نادي الامتيازات المغلق، والمُسمّى زوراً نقابة، ليُعينها في العبء المسمّى زوراً "تنظيماً"، وهو في الحقيقة تحجيم وترويض. اللعبة مكشوفة. وإن نجحَت، فبثمن باهظ، ولن تنجح.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024