مجلس الطوائف.. هكذا جرت أولى الانتخابات اللبنانية

محمود الزيباوي

الخميس 2020/09/10
في أول أيلول/سبتمبر من العام 1920، أعلن المفوض السامي لدولة الانتداب الفرنسي الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير، بعد إعادة ترسيم الحدود بين الولايات التي كانت خاضعة للحكم العثماني. وفي مطلع العام 1922، دعت سلطة الانتداب إلى انتخاب مجلس نواب خاص بالدولة الوليدة، وذلك تبعاً لتوزيع مناطقي طوائفي استحدث لهذا الغرض. 
 
رصدت صحيفة "المعرض" مراحل ولادة هذا المجلس، وقالت عند الإعلان عن تأسيسه: "ان جمعية الأمم حكمت علينا في عهدة فرساي باننا قاصرون وانتدبت للوصاية علينا فرنسا، فكان من احكام الانتداب ان لا يكون للقاصر ما للراشد. فنحن اليوم دولة ولكن أقلّ من الدول المستقلة وأعلى من البلاد المستعمرة، لذلك أصبحنا في كل أمورنا وأحوالنا بين بين. وعلى كل حال فإننا نحمد العناية التي قدرت ان يكون لنا مجلس منتخب قبل كل البلدان الواقعة تحت الانتدابين الفرنساوي والبريطاني من دجلة إلى النيل، راضين باتباع الحكمة القائلة إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون".

أضافت الصحيفة بشيء من التهكم: "سيتمكّن النواب غدا في المجلس ان يقولوا انهم يمثلون الشعب، وأننا نتمنّى من كل قلوبنا ان لا يأتي يوم يخجل فيه الشعب من نوابه. ان ذلك اليوم، ولا سمح الله به، يكون أقبح صفحة في تاريخنا الوطني". ثم كشفت عن طبيعة هذا المجلس وعدد نوابه، وأوضحت: "أمّا النواب فسيكونون على التنسيق الآتي: عشرة عن الموارنة، ستّة عن السنّة، خمسة عن الشيعة، أربعة من الروم الأرثوذكس، اثنان من الكاثوليك، واحد من الأقليات. وسيكون الانتخاب كما يأتي: 
بيروت: خمسة نواب، سنيان وماروني واحد وروم ارثوذكس واحد وعن الأقليات واحد. 
لواء جبل لبنان: ثمانية نواب، خمسة موارنة واثنان دروز وعضو أرثوذكسي.
لواء لبنان الشمالي: أربعة نواب، اثنان موارنة وسنّي واحد وارثوذكسي واحد. 
لواء لبنان الجنوبي: ستة نواب: ثلاثة شيعيون وعضو ماروني وعضو سني وعضو روم كاثوليك.
لواء البقاع: ستة نواب اثنان شيعيان وعضو ماروني وعضو سنّي وعضو ارثوذكس وعضو كاثوليكي.
طرابلس: سنّي واحد".
وختمت "المعرض" هذا العرض بالقول: "أما الأمر الوحيد الذي نخجل منه والذي لا مناص لنا منه ومهما قلنا ورفعنا صوتنا، هو ان يكون الانتخاب باسم الطوائف بينما يكون الانتخاب في بلاد الناس باسم الأحزاب".

هكذا شهد لبنان الكبير أوّل انتخابات نيابية تجري على أراضيه "باسم الطوائف"، وتابعها الأديب والصحافي جرجي نقولا باز، ووصف المرشّحين "المتزاحمين على الترشح والترشيح للانتظام في سلكه، اغتناما لفرصة نيل الأجر في خدمته"، وقال: "ازداد التزاحم بين زعمائنا والمتزعمّين فينا وطلّاب الشهرة منّا والراغبين في مناصب حكومتنا ووظائفها حبّا في الصالح العام، وكثرت النفقات وازدهت الولائم وتوفّرت المجاملات وتعفرت الوجوه وتضاحكت الشفاه ونبضت القلوب وعصرت الأدمغة، كلّ ذلك سعياً وراء المجلس النيابي المأمول والذي لم نكن لنصدّق قرب عقده لولا كثرة المتزاحمين على الدخول فيه".

إثر هذه الانتخابات، ولد أول مجلس للنواب في دولة لبنان الكبير بأعضائه الثلاثين، ونشرت المعرض أسماء النواب الفائزين تحت عنوان "مجلس الطوائف"، وقالت في تعليقها: "تتألّف المجالس في العالم أحزاب، أمّا مجلسنا فيتألّف من الطوائف. إذن فطوائفنا هي أحزابنا هذه، ولا يعجب القراء إذا أطلقنا اسم الحزبية على مندوب كل طائفة عندنا". وأردفت: "هذا هو مجلسنا الكبير بصلاحيته الصغيرة، ولكن أملنا كبير بأن هذه الصلاحية ستتوسّع على قدر استحقاقنا الحقيقي بهّمة نوابنا ووطنيّتهم وكفايتهم وثباتهم".

ضمّ "حزب الموارنة" عشرة أعضاء، وهم خمس نواب لجبل لبنان، نائب لبيروت، نائب للبنان الجنوبي، نائب للبقاع، ونائبان للبنان الشمالي. وضمّ "حزب السنّة" ستة أعضاء، وهم نائبان لبيروت، نائب للبناني الجنوبي، نائب للبنان الشمالي، نائب البقاع، ونائب طرابلس. وضمّ حزب الشيعة خمسة نواب، وهم ثلاثة لبنان الجنوبي، واثنان للبقاع. وضمّ حزب الأرثوذكس أربعة نواب، وهم نائب لجبل لبنان، نائب لبيروت، نائب للبقاع ونائب للبنان الشمالي. وضمّ حزب الكاثوليك نائب للبقاع ونائب للبنان الجنوبي. وضمّ حزب الدروز نائبين لجبل لبنان. أما حزب الأقليات فاقتصر على نائب واحد تابع لبيروت.

أثار هذا التوزيع حفيظة عدد من الكتاب والصحافيين، ومنهم جبران تويني الذي حمل لواء اللاطائفية في الزاوية التي وقّعها باسم "أبو غسان" في صحيفته "الأحرار المصوّرة". في 5 نيسان/ابريل 1926، وبالتزامن مع إعداد دستور لبنان الكبير، كتب تويني تحت عنوان "الطائفية واللاطائفية": "قامت في الصحف ضجّة كبرى حول الطائفية في الدستور، فذهب فريق إلى وجوب جعل الكراسي النيابية والوزارات موزعة على الطائف، وذهب البعض الآخر إلى جعل الوظائف والكراسي النيابية وفقا على الكفاءات". ثم أضاف معلّقا: "كنا نود ان لا يتعرض الدستور لقضية الطائفية وان يبقى بعيدا عنها حتى يضع للبلاد أساسا قوميا تصهر فيه الطوائف في بوتقة الوطن، ولكن لجنة الدستور اخذت كما قالت بآراء أكثرية الذين ردوا على اسئلتها، وكانوا من طلّاب الطائفية، فجعلت الدستور على قاعدة الطوائف. فالّلوم يجب ان يتناول الذين طلبوا الطائفية، ووضعوا لجنة الدستور أمام أمر واقع. وان قيل انه يجب على اللجنة ان تضرب عرض الحائط بآراء المستشارين، قلنا ان الصحف طلبت من اللجنة ان تتقيّد بآراء الأمة، فهل نلومها إذا نزلت عند ما طلبوه؟".

رأى تويني ان "الطائفية داء عضال يجب ان نعالجه، قبل معالجته في اللجنة، في المدرسة والمنزل والسوق، ومتى تمكّنت الفكرة من الصدور كان تحقيقها سهلا". وطالب بنشر "الدعوة بين مختلف الطبقات إلى محاربة الطائفية في الدستور ليخرج خاليا من هذه الشائبة"، وختم كلمته بالقول: "وان في الوقت متّسعا حتى الآن لدخول البيوت من أبوابها".

في 27 نيسان/ابريل، تطرّق أبو غسان من جديد إلى موضوع "الطائفية في الدستور"، وقال: "حمي وطيس الجدال حول الطائفية في الدستور، وذهب فريق كبير من أعضاء اللجنة النيابية الى وضع الطائفية في صلب الدستور، فلا يكتفي بتقسيم الكراسي النيابية على الطوائف بل تكون وظائف الدولة كلّها مقسّمة على نسبة الطوائف أيضا". نبذ صاحب النهار هذا التوجّه، واعتبر "ان تقسيم الوظائف على الطوائف يوطد أساس الطائفية ويقضي بالفشل على كل سعي يسعاه المفكرون الى تقوية الروح القومية وقتل الفوارق الطائفية في الشؤون العامة".

في 23 أيار/مايو، أقرّ مجلس النواب الدستور، وأعلن قيام الجمهورية اللبنانية، ورشّح الأرثوذكسي شارل دباس لرئاسة هذه الجمهورية. تابع أبو غسان الحدث، وكتب بعد يومين: "على ذكر رئيس الجمهورية نقول ان ترشيح السيد شارل دباس للرئاسة صادف قبولا في أكثر الدوائر الوطنية لما اشتهر عنه عن عدم التحيّز، وحتّى ان فريقا كبيرا من مفكّري الطائفة المارونية، وهي الأكثر عددا في لبنان، صارحونا بأنهم ينظرون إلى ترشيح غير ماروني بعين الرضى، لأنهم يريدون ان يعطوا المثل الصالح في فتح الباب على مصراعيه لأرباب الكفاءات من أي طائفة كانوا لتولي وظائف الدولة، ونحن نثني على هذه العاطفة كل الثناء لأنها خطوة ناجحة إلى اللاطائفية الصحيحة التي هي أساس القومية المتين. على اننا رأينا إزاء هذه العاطفة الوطنية، سعيا خفيا يرمي الى ايقاظ النعرة الطائفية حول رئاسة الدولة، فأخذ فريق من أصحاب المنافع يقولون، وبعضهم كتبها، ان رئاسة الدولة يجب ان تكون في الطائفية الأكثر عدداً، فنحن نستصرخ هؤلاء النافخين في النار ان لا يثيروا هذه المسألة الدقيقة في ظروف نحن احوج فيها الى جمع الكلمة لتقرير مبدأ ما زلنا نجاهد في سبيله منذ سنين، وهو ان يكون على رأس الدولة وطني مهما كانت طائفته، فان هؤلاء الداعين الى الطائفية فقد يضيعون فرصة لن تسنح لهم بعد. انهم يعطون للأجنبي حجة علينا بانّنا لا نفقه للوطنية ولا للقومية معنى، وأننا سنظل في انتماءاتنا الطائفية مشتغلين. ليكن رئيس الدولة وطنيا، وليعبد ربه كيفما شاء، إذ ذلك شأنه مع الله".

انتصر دعاة الطائفية على دعاة اللاطائفية في عهد الانتداب، كما انتصروا في عهد الاستقلال. وتحوّلت الطائفية إلى لازمة من لوازم الحياة السياسية في لبنان. في تشرين الثاني 1952، أصدرت جريدة "العمل" لمناسبة عيد الاستقلال وعيد تأسيس حزب الكتائب عدداً ممتازاً شارك فيه سعيد فريحة بمقال عنوانه "هذا الكوكتيل الذي يتألف من شعب لبنان". استهل صاحب "الصياد" حديثه بالكلام عن قانون الانتخاب الجديد الذي تبنّته الحكومة اللبنانية يومها، ورأى أنه قانون "يوزع الدوائر على أساس طائفي، فهنا سنّي، وهناك ماروني، وهناك شيعي، أو درزي، أو أرثوذكسي، أو كاثوليكي أو أرمني كاثوليكي، أو أرمني أرثوذكسي، أو الأقلياتي نسبة إلى الأقليات، إن لكل واحد منهم طائفته وأرضه الحرام في العاصمة والجبل وسائر المناطق اللبنانية". اعتبر الكاتب أن هذا القانون يعكس الواقع اللبناني، وقال: "أعتقد لو أن الدوائر وُزّعت على أساس غير طائفي لما تبدلت الحال كثيراً، ولانتخبت كل طائفة نوابها دون سواهم، لأن فضيلة العزلة أو الانكماش، سمِّها كما شئت، جعلت كل طائفة من طوائف هذا الوطن تعتصم بمناطقها وتستقل بأحيائها". 

كما فعل جبران تويني من قبله في العشرينات، حذّر سعيد فريحة من تعاظم المسألة الطائفية في لبنان، وقال: "الطائفية في لبنان خطر، وخطر كبير جداً، وليس أدل على ذلك من وجود هذا الكوكتيل العجيب الذي يتألف منه شعب لبنان. بل ان الكوكتيل العادي يمتزج ويختلط ويصبح واحداً له طعم خاص ونكهة خاصة. أما شعبنا الأبي فيتألف منه كوكتيل لا يمتزج ولا يختلط، بل يظلّ بمئة طعم ومئة لون، مع ثلاث وثلاثين دائرة انتخابية، كل واحدة منها لطائفة أو لعدة طوائف، وكل طائفة، لها نواب منها وممثلون عنها، سواء أكان القانون على أساس طائفي أم كان على أساس: الدين لله والنيابة للجميع".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024