دورا مار.. بمعزل عن بيكاسو

روجيه عوطة

السبت 2019/06/15
في العادة، لا حديث عن دورا مار سوى عن كونها ملمهة بيكاسو. وبجمعهما، يصير حديثاً عن كونهما ذلك الثنائي الفني، الذي يحاول كثيرون تقليده إلى درجة الابتذال، تماماً، كما هو الوضع حيال ثنائيات ثقافية أخرى، وعلى رأسها الثنائي المشهور سارتر-بوفوار. بالتالي، لا تحضر مار على نحو منفرد، وحدها، بمعزل عن ربط سيرتها برسامها، أو بالأحرى عن سحق سيرتها بسيرته، التي غالباً ما تحل فيها كوجه في لوحة تثبت على حزن وتعاسة. لهذا، يشكل المعرض الذي ينظمه عنها "سنتر بومبيدو" في باريس مناسبة للتعرف عليها عن كثب بلا اختزال عملها في عَيشها، وعيشها بجزء منه، وهذا الجزء برجل حطم ذات يوم قلبها، وجعلها فريسة سهلة للإضطراب. 

كانت مار، التي ولدت في الدائرة السادسة لأب من أصل كرواتي وأم فرنسية، من الفنانات اللواتي ركّزن موقع الفوتوغرافيا أكثر فأكثر في الفن التشكيلي خلال عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم. ففي هذه المرحلة، كانت الفوتوغرافيا تحاول أن تفرض نفسها، ليس في رجاء التمثيل، أي تمثيل موضوعها بمعنى تطبيق صورته عليه، إنما في الرجاء المعاكس له، الذي أرساه القيمون عليه، أو صانعوه في عمومهم، على رغبة شديدة في فتح الفن على كل قدرة من قدراته. في هذا السياق، لم تجد مار في التصوير سوى وسيط، لا مبالغة في وصفه، وبالانطلاق من أعمالها، بالشعري.

وذلك، ليس لأنها تعمد به إلى تصريف التمثيل، أو إلى درئه، ودائماً إلى تخريبه، إنما لأنها تقدم به موضوعها كأنه يصدر عنه بالكامل. بعبارة أخرى، تصوير مار هو تصوير شِعري لأنه فعلياً يخلق هذا الموضوع من ألف إلى يائه، وهذا، عبر تصريفه عن مرجعه في يسمى بلا دقة هنا بواقعه. 


لقد شاركت مار في جعل الشعر قياس الإبداع الفني، وبديهية الإشارة إلى أنه قياس تغييري، وقد حملتها هذه المشاركة على التلاقي مع عدد من رفاقها، أكان في مجموعة أكتوبر التي كان جاك بريفير من مؤسسيها، أو في صفوف اليسار المتطرف، حيث التقت باندريه بريتون أو جورج باتاي، منتمية إلى الحركة السوريالية، التي سرعان ما صارت من وجوهها... على هذا المنوال، رست فوتوغرافيا مار على ذلك القياس، الذي لم يفارقها في كل التقاطاتها، التي لا شك في كونها تنطوي على بعد تخيّلي شيق، وفي الوقت نفسه، على بعد التزامي مباشر، مردّه ماركسيتها، فضلاً عن بُعد استعراضي فاتن، يتعلق بعلاقة الفنانة بالأزياء وتصويرها، عدا عن علاقتها بعالم الإعلان.

وبين الأبعاد الثلاثة هذه، وبين غيرها أيضاً، ثمة صلة وصل تربطها ببعضها بعضاً، وهي تنبه مار إلى ما هو ليس مرئياً. وعندما تقرّه على خلاف وضعه هذا، لا تفعل ذلك بالإفراط البصري، إنما بتجهيزه بصرياً، لا سيما عبر اتباع لعبتها المفضلة، أي لعبة الضوء والظل. فهذه اللعبة تحضر على الدوام في كل تصويراتها، أكان في صورة الصبي بحذاء ناقص، أو في صورة الوجه الممزق، أو المرأة التي تطل من النافذة. وفي كثير من الأحيان، لا يغلب ضوءٌ ظلاً، ولا العكس، إنما يستقران على توازن، ولو في ارتطامهما.

على أن مار، وفي إثر نصيحة من بيكاسو، الذي كانت قد تعرفت عليه في نهاية العام 1935 بمعية بول ايلوار، تركت الفوتوغرافيا، وبدأت بالرسم، الذي قد يصح القول إنه يبين تقويض تصويرتها، من دون أن يعني ذلك أنه لا ينعقد على أسلوبها. اتسم رسم مار بملامح تكعيبية وانطباعية بيكاسوية نوعاً ما، وهذا ما دفع الفنانة إلى الاحتفاظ بالعديد من رسومها، اي الإبتعاد عن عرضها، بالإضافة إلى أنه أدخلها في صراع مع ذاتها حول كيفية تطوير خطها الخاص، لا سيما بعد انفصالها عن بابلو. لكن مار، ابقت على تعريف نفسها كفوتوغرافية أكثر مما هي رسامة، ولم يُكشف عن رسمها بأكمله الا بعد موتها العام 1997 في منزلها الموحش.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024