"روح الموصل".. كيف نعيش معاً؟

محمود الزيباوي

الخميس 2021/06/10
افتتحت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) في البندقية معرضاً حول مشاريعها لترميم معالم مدينة الموصل التي تعرضت للخراب خلال سيطرة تنظيم "داعش" عليها على مدى ثلاث سنوات. جاء هذا المعرض التوثيقي على هامش المعرض الدولي السابع عشر للهندسة المعمارية، وحمل عنوان "احياء روح الموصل". وبالتزامن مع هذا الحدث، بدأت "اليونيسكو" تنفيذ المرحلة الأولى من إعادة إعمار كنيسة الطاهرة وكنيسة الساعة، وذلك بعد شروعها في ترميم الجامع النوري في نهاية العام الفائت.

تقع مدينة الموصل شمالي العراق، وهي مركز محافظة نينوى والمدينة الثانية في البلاد من حيث عدد السكان بعد بغداد. اشتهرت بمناخها اللطيف في الربيع والخريف، ولُقّبت لذلك بـ"أمّ الربيعين"، كما عُرفت بـ"الحدباء"، وذلك لإحتداب نهر دجلة الذي يخترقها، وإحتداب منارة جامعها المعروف باسم الجامع النوري. تشرف هذه المدينة على أطلال نينوى، عاصمة الأشوريين الكبرى من الشرق القديم الممتدة على الساحل الأيسر من دجلة، وتحيط بها آثار خور ساباد والنمرود، وتشكل في توسعها امتداداً حديثاً لهذه الإطلال، كما انها تحتفظ بطابعها الأثري القديم في الجزء الأوسط منها. في الأمس القريب، بدت الموصل مدينة عصرية تشكّل حلقة الوصل بين بلاد الرافدين ومحيطها، واشتهرت بالتجارة مع الدول المجاورة، وفي مقدمها سوريا وتركيا. يمكن القول بأن هذه الصورة لازمتها منذ القدم، فهي بحسب تعريف ياقوت الحموي في نهاية الحقبة العباسية "المدينة المشهورة العظيمة، إحدى قواعد بلاد الإسلام، قليلة النظير كِبراً وعِظَماً وكثرةَ خلق وسعة رُقعة، فهي محطّ رحال الركبان ومنها يقصد إلى جميع البلدان، فهي باب العراق ومفتاح خراسان ومنها يقصد إلى أذربيجان"، وقيل انها سُميت الموصل "لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق"، و"بين دجلة والفرات".

تميّزت الموصل بتعددية أدهشت الرحّالة الذين مرّوا بها. جمعت هذه المدينة بين العرب والكرد المسلمين، وضمّت طوائف مسيحية عديدة، كما أنها حوت الأزيديين والمندائيين. عاش المسيحيون مع المسلمين، وكانت العلاقة متآلفة بين طوائف الجماعتين في كثير من الأحيان، وقد أشار الرحالة نيبور إلى هذه العلاقة بعد زيارته الولاية في عام 1766، وكتب في يومياته: "حالة النصارى في الموصل أحسن بكثير من حالة النصارى في بقية بلدان الأمبراطورية العثمانية، فهم يعيشون سعداء على وئام تام مع المسلمين، ولهم الحق في أن يلبسوا كما يلبس المسلمون، وكثير منهم يعملون في خدمة الباشا". كذلك، شهد الميجر ايلي بانستر سون لهذا الوفاق عندما زار البلاد في أواخر القرن التاسع عشر، ورأى أن نصارى الموصل يتمتعون بالحرية، "وهم بمنجاة من الاضطهاد"، و"إنهم يردّون هذه المزية والحال المستحبة إلى أنّ المسلمين والنصارى عرب في الإحساس واللغة، وفوق كل شيء هم مرتبطون برابطة التساكن في المدينة، وهي رابطة قوية في الغالب وملمح تراص في مدن الشرق المنعزلة".

جوامع ومدارس
تتجه الأنظار اليوم إلى الجامع النوري وكنيسة الطاهرة وكنيسة الساعة، وتحاول ان تستعيد "روح الموصل" تحت شعار "كيف نعيش معاً؟". يحمل الجامع اسم الملك العادل أبو القاسم نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الذي شيّده بعد سيطرته على الموصل في سنة 1170 كما تقول المصادر التراثية الإسلامية، وكانت أرضه خربة واسعة في وسط الأسواق، فاشتراها وبنى عليها الجامع، وفوّض أمر عمارته إلى شيخه الزاهد معين الدين عمر الملا الذي أشار إليه بابتياع الخربة وبنائها جامعاً، "وأنفق فيها أموالاً جزيلة، ووقف على الجامع ضيعة من ضياع الموصل"، كما نقل ابن خلكان في "وفيات الأعيان". تستند هذه الرواية إلى خبر نقله أبو شامة المقدسي في "الروضتين في تاريخ الدولتين الصلاحية والنورية" حيث يمجّد الراوي نور الدين الذي "بنى الجوامع في جميع البلاد"، وجعل من جامعه في الموصل قمّة "في الحسن والإتقان".

عانى هذا الجامع، ويلات الحروب المتلاحقة التي شهدتها الموصل، وتهاوى مع الزمن. مرّ به الرحالة البريطاني جيمس سلك بكنغهام، في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، ووجده مهجوراً ومهملاً. ومن بعده، قام المستشرق الألماني ارنست هرتسفلد بدراسة الموقع، وخرج بتقرير علمي خالف فيه الرواية التي نقلها الرواة في الماضي، وشكّل هذا التقرير بداية لسلسلة من الدراسات المتلاحقة تباينت فيها الآراء في تحديد أصل البناء وتاريخ تطوّره. في سنة 1939، عُيّن تحسين علي متصّرفاً على الموصل، ووجد الجامع "مهدماً ومهجوراً لا يصلح لإقامة الصلاة" كما روى في مذكراته، فطلب من مدير الأوقاف العامة تخصيص ميزانية لصيانته، وشُكّلت لجنة لهذا الغرض، لكن هذا المشروع لم يتحقّق. في الأربعينات، بدأ ترميم الجامع تحت اشراف مصطفى الصابونجي الذي أعاد بناءه وفقاً لهيكلية هندسية جديدة مستخدما الرخام، وأضاف إليه أربع مدائن حديثة. قضت حملة "الترميم" على البناء الأثري بحيث لم يبق منه سوى المنارة والمحراب وبعض الزخارف الجصية، غير أنها ساهمت في الكشف عن الكثير من حلله، منها جدار القبلة الذي نُقل إلى المتحف العراقي. تزين هذا الجدار تشكيلات زخرفية جصية تجمع بين الوحدات الهندسية والعناصر النباتية والكتابات الكوفية، وتشهد للمقام الرفيع الذي بلغته جمالية الفن الإسلامي في القرون الوسطى.

إلى جانب الجامع النوري، تحتضن الموصل مجموعة كبيرة من الجوامع والمدارس والمراقد الأثرية، منها الجامع الأموي، الجامع المجاهدي، جامع النبي يونس، جامع النبي جرجيس، جامع النبي شيت، جامع الجويجي، وجامع الباشا. ولكل موقع من هذه المواقع، تاريخ أثري مثير. أنشأ عتبة بن فرقد السلمي، الجامع المعروف بالأموي، بعد فتح المدينة، وقام بتوسيعه مروان بن محمد عندما تولى الموصل، وبنى فيه منارة، وأضاف إليه الخليفة المهدي الأسواق التي كانت تحيطه. تداعى بعدها بنيان هذا المسجد، فأعاد الأتابكيون بناءه، وعُرف بالعتيق بعد بناء الجامع النوري الذي عُرف بالجديد. تهاوى هذا البناء، ولم تبقَ منه سوى بقايا مئذنته الأتابكبة وجامع صغير يُعرف بجامع الكوازين نظراً لوقوعه في هذه المحلة، ويُطلق عليه البعض اسم جامع المصفى، نسبة إلى الحاج محمد مصفى الذهب الذي قام بتجديده. في المقابل، يُعرف الجامع المجاهدي بجامع الخضر، كما يُعرف بالجامع الأحمر، وقد شُيّد في الربع الأخير من القرن الثاني عشر، وشُيّدت إلى جواره سلسلة من المباني، واشتهر بزينته التي وصفها ابن جبير بإعجاب بالغ، وبقي من هذه الزينة محرابه الذي يُعدّ أكبر محراب وصلنا من تلك الحقبة.

ديارات وكنائس
إلى جانب هذه الجوامع الأثرية، تحوي المدينة عدداً كبيراً من الديارات القديمة التي تم تجديدها في القرنين الماضيين، منها دير مار ميخائيل، دير مار كوركيس، دير مار أوراها، دير الربان هرمزد، دير مار بهنام، ودير مار متى. كذلك، نقع على كنائس قديمة أعيد تأهيلها، منها كنيسة مار شعيا، كنيسة الطهرة التي تعود إلى الدير الأعلى، كنيسة الطاهرة القديمة الواقعة في محلة القلعة، كنيسة مار توما الملاصقة لدار مطرانية السريان الأرثوذكس، كنيسة شمعون الصفا، كنيسة مار حوديني، وكنيسة مار كوركيس. تتميّز هذه الكنائس بزينتها المعمارية التي تماثل زينة المساجد المعاصرة لها، وتشهد على شراكة فنية اسلامية مسيحية تتخطّى بشكل لافت حدود الملل والنحل.

في هذا السياق، يُمكن القول إن أحدث هذه الكنائس تاريخياً، كنيسة الطاهرة وكنيسة الساعة اللتان عادتا اليوم إلى الواجهة الإعلامية. تقع كنيسة الطاهرة في محلة القلعة التي كانت النواة الأولى للمدينة قبل توسّعها، في الجانب الأيمن حوش الخان، وتسمى بكنيسة القلعة، وتعود لطائفة السريان الكاثوليك، وهي واحدة من كنائس عديدة في الموصل تحمل لقب مريم الطاهرة، وتُعتبر أكبر كنائس العراق من حيث المساحة، وهي كاتدرائية غلِّفت بحجر الحلان، وتتألف من ثلاثة أروقة شاهقة أوسعها وأعلاها أوسطها، وتضم قبة شاهقة تخترقها اثنتا عشرة نافذة. جرى تكريسها سنة 1862 مع دار المطرانية المجاورة. وتمّ تجديدها في 1969، فكُسيت من الخارج بالحجر وطُليت من الداخل، وأُضيفت إليها قاعة كبيرة. وقد فجّرها تنظيم "داعش" في شتاء 2015.

تُعرف هذه الكنيسة بالطاهرة الجديدة، وتجاورها كنيسة تُعرف بالطاهرة القديمة، وتختلف الآراء في تحديد تاريخ تأسيسها، والثابت أن أقدم شاهد مدوّن معروف يرد ذكرها فيه يعود 1672، وقد جرى ترميمها في 1744، وتُعتبر تحفة فنية بزخارفها ونقوشها ذات الطابع المحلي، برغم ما أصاب بنيتها من تشويه في مطلع القرن التاسع عشر إثر فتح مذبحين مستحدثين في طرفي المذبح الكبير، إضافة إلى طلاء مرمرها بالدهان.

أما كنيسة الساعة، فتختلف عن كنائس الموصل بشكل جذري، وهي كنيسة اللاتين التي أُنشئت لتكون مركزا للآباء الدومينيكان، وتُعرف شعبيا بـكنيسة الساعة. دُشّنت في صيف 1873، واكتمل بناء برجها في صيف 1882، وضمّ ساعة ميدانية قدّمتها زوجة الأمبراطور نابليون الثالث للآباء الدومينيكان عرفاناً لخدماتهم في المدينة، وقد اشتهرت هذه الساعة بدقاتها الجهورية التي كانت تُسمع في القرى المجاورة.

تتميّز هذه الكنيسة بقبّتين متساويتين في الحجم، وتحوي أرغناً ضخماً مقابل مذبحها كان الأول من نوعه في هذه البقعة من الشرق. وقد تعرّضت لانفجار كبير أدّى إلى تدمير ساعتها في ربيع 2008، ثم قام تنظيم "داعش" بتفخيخها بعدما نهب كل محتوياتها في شتاء 2015.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024