إضحك مع "الثورة المضادة"

رشا الأطرش

الإثنين 2019/10/28
الثورة المضادة تتبلور، تركّب أطرافها وتثبّت رأسها بين كتفيها. ورغم سخافة عناصرها، وصوابية التصدي لها بالسخرية أكثر من أي شيء آخر، فإنها ليست بالضرورة عديمة الفاعلية، وبالتالي فإن تجاهلها والاستخفاف بتأثيرها ليس خياراً حكيماً.

لعله من الممكن الجزم بأن "المضاد" لن يؤثر في مئات الآلاف، بل ملايين الناس الذي يعرفون أنفسهم وبعضهم البعض، وينزلون من بيوتهم إلى الشوارع والساحات حيث يقضون أياماً وليالي، يهتفون ويغنون، يفترشون الأسفلت ويُضربون ويُشتَمون ويُعتقلون. يصنعون لرفاقهم الساندويشات والتبولة بأيديهم وفي مطابخ منازلهم، ويجمعون من جيوبهم التبرعات التي قد لا يزيد واحدها عن 20 ألف ليرة، ثم  يبللهم المطر أو تحرقهم الشمس، وأحياناً يكابدون إصابات بليغة أو حتى يموتون في سبيل هذا الحلم الوليد كما كان مصير حسين العطار.

لكنه من الممكن الجزم أيضاً بأن الثورة المضادة لها جمورها، وهي عميقة التأثير فيه، وهو يتحرّق شوقاً إليها. جمهور ليس بحجم جمهور الثورة، بيد أنه ليس هامشياً. ينتظر بفارغ الصبر، الحُجَج و"الأدلة" والصور والفيديوهات والأفكار "المتماسكة"، ليتلقفها من "الأدمغة" المضادة، ويعيد قذفها في وجوه الثوار والفضاء الثوري، كمتنفَّس لغيظ كثير خلقه كل هذا الجمال في الساحات، من فيض بشر وأفكار ويوفوريا، يشكل لحظة تأسيسية جديدة في ماهية لبنان كدولة ووطن وشعب.

هكذا، يمسي فهم بلوكات بناء "المضاد"، فهماً للذهنيات التي تدبجه، وبالتالي للآخر الساحاتي، إن جاز التعبير، والذي ما زال متمسكاً بالسلطة وبممثليه فيها، والذين بدورهم يتشبثون بكراسيهم كما لو أن حيواتهم تعتمد على ذلك.. وهذا، على الأرجح، صحيح.

الثورة المضادة يُسخَّر لها بعض مقدَّرات "حزب الله"، ومعظم مقدّرات "العونيين": زعران الأزقة، مدسوسون ومدسوسات، انفلات موتورين وموتورات على إعلاميين ومتظاهرين في الحيز العام، ذباب الكتروني، تكثيف التجييش والكذب والشائعات والأبلسة عبر السوشال ميديا والإعلام. هذا كله معلوم ومُجرَّب ومتوقّع، لكنه مع ذلك، يستحق التفكيك. ليس لأنه يختزن جديداً أو مغايراً بالضرورة. بل لأن الثورة التي يستهدفها جديدة جداً، بل استثنائية، في أدبيات الشارع اللبناني منذ 50 عاماً على الأقل. ولأن التعامل مع محدودي الخيال، وإن خلا من المتعة، خطير. ذلك أن عديم الخيال غالباً ما يكون شديد الزند والزناد.

يبدو إعلام "الثورة المضادة" قائماً على عنصرين أساسيين: الأول، عُدّة قديمة وإن تم تجديد بعضها للتوافق مع متطلبات اللحظة. والثاني، عبارة عن انعكاس الذات في المرآة، بمعنى رؤية الثورة من زاوية رؤية الذات المضادة ومعرفتها.

العُدّة القديمة معروفة، وهي التي لا تكلّ ولا تملّ صحف وتلفزيونات وحسابات سوشال ميديا من استخدامها: أميركا، إسرائيل، الغرب اللعين والعرب الساقطون.. تلك الدول والأنظمة الشيطانية، كليّة القدرة، والمتمتعة دوماً بكل الوقت والموارد والاستقرار الداخلي والخارجي، لتضع إمكاناتها في التمويل والتآمر وحياكة الدسائس والألاعيب، لخدمة إسرائيل وتخريب بلادنا، بالمال والدعم السياسي والرفد بالخبرات التخريبية. وهي الدول التي اعتدنا ظهور قادتها، بقرنَين حمراوين والدم يقطر من أنيابهم، في تظاهرات "حزب الله" ولفيفه القومجي أو اليساروي. والآن، تسللت صورتها هذه، كرزمة كاملة، إلى الخطاب العوني الذي عرفناه بدايةً معادياً للعرب السنّة بشكل أساسي، لكنه ما لبث أن أخذ نفساً عميقاً، وزمجر، وإضاف إليها تركيا كداعمة للانتفاضة اللبنانية الراهنة.

وإذ تضافر "المضادون" لإيجاد المعادل الشيطاني المحلي في حزبَي "القوات" و"الكتائب"، نابشين ذاكرة الحواجز والهويات ومليشيات الحرب الأهلية التي قصّوا صورهم هم فيها كما يفعل مخرجو أفلام الخيال العلمي، فإن العقل العوني أبى إلا أن يطعّم الخطاب بعنصر محلي يهمه الاستثمار فيه، أي اللاجئين السوريين. فظهّر أفراداً سوريي اللهجة يشاركون في التظاهرات، وركّز، بكل فطنة، على الامتداد (البديهي في عهد نصرالله – باسيل!) للشعارات والهتافات من سوريا إلى لبنان وبالعكس، والتضامن مع ادلب وغيرها، واستلهام هتافات القاشوش "يلا ارحل يا بشار/ميشال عون".

أما العنصر الثاني في إعلام الثورة المضادة، و"الطبيعي" إلى حد كبير، فهو أن "المضادين" لا يستطيعون فهم ما لا يملكون: فكيف تكون ثورة بلا قيادة؟ بلا تنظيم حديدي مرصوص؟ بلا طاعة لأب؟ بلا عبودية لفكرة واحدة؟ بلا ورقة عمل معمّمة ومكرسة ومعتَمَدة من "الجماهير"؟ بلا شعارات موحدة؟ كيف تكون ثورة بلا أحزاب، بل على الأحزاب والزعامات؟ كيف يقبل كل ثائر أن يُسقط قدسية زعيمه المفترض قبل زعماء الآخرين؟ كيف تُستقطَب الجامعات الكبرى ورؤسائها والسواد الأعظم من طلابها وأساتذتها، إلى جانب الجامعة اللبنانية وموظفي القطاع العام، ثم المهن الحرة وصغار الحرفيين والكسَبة؟ أي خلطة لامعقولية هذه إن لم تكن جهنمية مفتعلة؟ 

وكيف يُصدّق عصيان مدني أصيل وحقيقي وشعبي، هائل الاتساع والتنوع المناطقي والطائفي، بمعزل عن مؤامرة شلّ البلد لغاية أكبر من إسقاط حكومة أو تبديل طقم سياسي مستعصٍ وعفن (كأن هناك ما يمكن أن يكون أكبر)؟ ولماذا لا ترضيهم "الإصلاحات"؟ كيف تُصدّق صلوات المسلمين والمسيحيين، كل في منطقته، وتكاتفهم منادين بالمطالب المعيشية والاقتصادية والحقوقية ذاتها، بل وبدولة مدنية ومحاربة الفساد، وبثورة جندرية جذرية امتدّت سواعدها وركلاتها وخصورها الثورية الراقصة إلى النشيد الوطني لتجعل "سهلنا والجبل منبت للنساء"؟ كيف تُصدّق كل الطرائف والفنون التي ينتجها الشارع وناسه؟ وابتكار ممارسة اليوغا وسط الشارع، وأثاث البيت يُقطع به الطريق؟ كيف يمكن استيعاب هذا كله لولا التفسير الذي تفتّق عنه العقل المضاد، والكامن في أحد شعارات الثورة "اليد القابضة.. التابعة للمنظمة الصربية أوتبور التي يدعمها الملياردير اليهودي جورج سوروس ونظمت انقلابات من صربيا، مروراً بما سمّي الربيع العربي، وحتى فنزويلا"، بحسب تلفزيون البرتقالة؟

حسناً، في هذه الجزئية "الأوتبورية" الأخيرة، ربما لا يسعنا اتهام الثورة المضادة بفقر الخيال. كما لا يسعنا التعامي عن غنى خطابها بمتفجرات شتى، كل منها أداة فتك، لا رادع أخلاقياً أو وطنياً لإشهارها على عزّل، إن بلغ سيل المتظاهرين الزبى. فجبران باسيل لا يرى نفسه أقل من بشار الأسد، و"حزب الله" لا يرى نفسه إلا ظلاً لعلي خامنئي. لكن، مع كل الحذر والتنبّه للأيام المقبلة، فما بين أيدينا الآن يستدعي ضحكاً مجلجلاً.   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024