موسيقى فلسطين وغناؤها قبل 1948: التلاقي "السوري" وبروباغندا الحرب

حسن الساحلي

الخميس 2021/11/11
أصدرت "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، كتاباً مشتركاً للإخوة الياس وسليم وفكتور سحاب، بعنوان "الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948". يضم مقالات ودراسات تحليلية حول أنماط الغناء والموسيقى الشعبية، الرقص، الآلات الموسيقية في فلسطين، بالإضافة إلى فصل حول الموسيقى العربية الكلاسيكية قبل النكبة، نشر سابقاً في الموسوعة الفلسطينية العام 1991، ومقالة طويلة صدرت العام 2019 ضمن التقرير الحادي عشر للتنمية البشرية لـ"مؤسسة الفكر العربي"، تتناول الأغاني التي أُنتجتْ تضامناً مع القضية الفلسطينية منذ 1948 حتى اليوم.

يقسم الكتاب الإنتاج الموسيقي في فلسطين إلى قسمين: الموسيقى الشعبية في الأرياف التي كانت جزءاً من إطار مشرقي أوسع (بدوي – صحراوي وريفي – حضري) مشترك بين الأردن ولبنان وسوريا التي تشكل منطقة واحدة إنثربولوجياً، أما القسم الثاني من الإنتاج الموسيقي فهو المحترف أو الكلاسيكي (المشترك مع العالم العربي) الذي كان شائعاً في المدن الفلسطينية الكبرى، أي حيفا ويافا والقدس.

تاريخياً، تعود جذور الأنماط الشعبية في فلسطين إلى الحقبات القديمة، وهناك من يطلق عليها تسمية "السريانية" لأن جزءاً منها يُعتقد أنه عُرِّب من السريانية خلال التحول الديموغرافي – اللغوي الذي شهدته بلاد الشام خلال القرون الأولى بعد الميلاد. أما النمط الكلاسيكي - المديني، فوفق الكتاب، هو حديث إلى حد كبير وانتشاره يعود فقط إلى العقود القليلة السابقة على النكبة "تحديداً بين العائلات المنتمية إلى الطبقات العليا في المدن التي أخذت تتسرب إليها عادات مجالس الطرب التي كانت مزدهرة في القاهرة وحلب"(*).

فلسطين: جسر بين مصر والمشرق العربي
يعيد الأخوة سحاب الفضل في انتشار الموسيقى الكلاسيكية في فلسطين(**) إلى التطور الذي شهدته مدرسة القرن التاسع عشر في مصر (مع عبده الحمولي ومحمد عثمان)، ثم لاحقاً مدرسة القرن العشرين (مع سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وغيرهما): "دخلت هذه الموسيقى إلى يافا وحيفا والقدس عن طريق مشاهير الطرب في مصر الذين كانوا يتوافدون بشكل منتظم إلى بيوت الميسورين ثم لاحقاً إلى صالات هذه المدن الفنية".

ثم مع ظهور الإسطوانة في مصر بين العامين 1903 و1904، ستصبح أصوات المطربين المصريين ضيفاً دائماً على بيوت العائلات الميسورة في فلسطين. وسيشكل مجيء السينما، بعد عقود، دفعاً مهماً لهذه الأنماط، لكن يبقى التغير الأكبر سببه الإذاعات التي ستسمح للغناء المصري بالوصول إلى فئات أوسع وأكثر تنوعاً طبقياً وإجتماعياً بدءاً من الثلاثينيات.

لا يعني ذلك أن حضور الموسيقيين القادمين من سوريا لم يكن مهماً أيضاً في فلسطين، وهو ما تؤكده لائحة الأسماء التي ينقلها الإخوة سحاب عن كتاب يسرى جوهرية عرنيطة "الموسيقيون في فلسطين ما بين 1870 و1920" لمغنين سوريين برعوا في الموشحات والقدود بشكل خاص: نذكر منهم الشامي محمد علي الأسطة، والحلبي عازف الكمان توفيق الصباغ، بالإضافة إلى "عدد من اليهود الحلبيين الذين امتلكوا مكانة وتقديراً في فلسطين، حيث شكلوا فرقاً موسيقية مرموقة، وكان لهم دور في الحفاظ على الموسيقى العربية الكلاسيكية، وبخاصة الموشحات" (منهم حاييم عازف الكمان، وزاكي الحلبي المغني وضابط الإيقاع).



يُذكَر أن التنوع الديني كان سمة مميزة في وسط الموسيقى في فلسطين قبل النكبة (وهو ما نجده في العراق وسوريا وبلدان المغرب خلال الحقبة نفسها)، حيث "تعتبر نسبة الموسيقيين المسيحيين أكبر من نسبة المسيحيين إلى مجموع سكان فلسطين، بسبب ارتفاع مستوى المرونة الإجتماعية لدى العائلات المسيحية في زمن كان احتراف الفن فيه من الأمور التي تدخل في معايير العيب في سلّم القيم الشعبية العامة".

من السمات الأخرى التي يذكرها الكتاب عن الموسيقى الكلاسيكية الفلسطينية، ارتفاع نسبة القادمين من الطبقات العليا "بما أن تقاليد الغناء المحترف ترعرعت أولاً في المدن، وفي بيوت العائلات المترفة وقصورها، قبل أن تتسع دائرتها شعبياً". ساعد هؤلاء تطور التعليم في مدارس الإرساليات التبشيرية التي أدرجت الموسيقى بشكل جدي في موادها الدراسية، وأبرزها "مدرسة تيرا سانتا" التي كانت تتيح لتلاميذها علوم الموسيقى الأوروبية ونظرياتها وفنون التدوين الموسيقي فيها، ما أعطى التلاميذ الراغبين في التخصص في الموسيقى الفرصة للعمل في هذا المجال.

من ناحية أخرى، يذكر الكتاب مؤسسات أخرى لعبت دوراً في تطور الموسيقي في البلاد خلال تلك الفترة، من بينها جمعية الشبان المسيحية في القدس التي أنشئت العام 1932 لتكون "أهم صالة مغلقة لسماع الموسيقى في الوطن العربي، بعد دار الأوبرا في القاهرة". استقدمت الجمعية فرق الموسيقى الكلاسيكية من أوروبا، ولاحقاً بدأت تستضيف النشاطات ذات السمات المحلية "خاصة خلال احتفالات الميلاد التي كان يعزف فيها سلفادور عرنيطة الترانيم الخاصة بعيد الميلاد على الأرغن المربوط بنظام أجراس خارجي" (وهو تقليد أصبح مكرساً بعد النكبة).

ظهور الإذاعة: القدس والشرق الأدنى
تبقى اللحظة المفصلية في تاريخ الموسيقي العربية الكلاسيكية في فلسطين، ظهور إذاعتي القدس والشرق الأدنى، وشكلتا فضاء لتلاقي وتفاعل الموسيقيين الفلسطينيين والعرب من سوريا ولبنان ومصر، لا سيما خلال المرحلة التي كانت الحفلات الغنائية فيها لا تزال حية وتذاع مباشرة على الهواء.

تميزت إذاعة القدس بامتلاكها فرقة للموسيقى العربية وأوركسترا سمفونية مؤلفة غالباً من أوروبيين يهود قدموا إلى فلسطين ضمن موجهات الهجرة التي سبقت 1948. من الموسيقيين الذين استقطبتهم الإذاعة خلال فترة نشاطها، المصري جميل عويس رئيس فرقة محمد عبد الوهاب، والسوريان محمد عبد الكريم (أمير البزق) والشيخ علي درويش، أحد أهم جامعي الموشحات وناشريها وملحنيها. أما من لبنان، فاستقطبت يحيى اللبابيدي، الذي يعتبر من أول الموسيقيين العرب الذين حملوا شهادة جامعية في الثقافة العامة (الجامعة الأميركية)، وتوفيق الباشا (بعد انتقال الإذاعة إلى رام الله)، وعامر خداج وزوجته المطربة سناء، كانا يؤديان الألوان اللبنانية التي كانت غير محبذة في الإذاعات اللبنانية.

أما إذاعة الشرق الأدنى، التي أنشأتها بريطانيا العام 1940، في سياق الحرب العالمية الثانية، فلم تقل أهمية عن إذاعة القدس، رغم وظيفتها المنضوية تحت خانة البروباغندا الهادفة إلى استمالة الجماهير العربية، ومنافسة الإذاعات المدعومة من إيطاليا وألمانيا. في هذا السياق، يخبرنا الكتاب قصة طريفة عن استغلال مدير الإذاعة (كان ضابطاً في الجيش البريطاني)، شهرة فتحية أحمد لاجتذاب المستمعين إلى سماع نشرة الأخبار الرئيسة التي كانت تذاع عند الواحدة والنصف ظهراً، وعندما طلبت أحمد تأجيل الحفلة للمساء، قام مدير الإذاعة، بتأجيل نشرة الأخبار حتى الثامنة والنصف.

لم تمنع وظيفة الإذاعة الدعائية، من تطوير الإنتاج الموسيقي والغنائي فيها، وربما كان ضرورياً أن يستمر هذا الجانب الفني حتى تبقى الإذاعة قادرة على اجتذاب المستمعين. هكذا استضافت إذاعة الشرق الأدنى، شأنها شأن إذاعة القدس، كبار الموسيقيين والمغنين العرب، مثل نجاة علي، وفتحية أحمد، وكارم محمود، ومحمد عبد المطلب، وعصمت عبد العليم، وشهرزاد. كما كانت تسجل لحسابها أعمال هؤلاء، وربما من أشهرها "همسة حائرة" لمحمد عبد الوهاب خلال الأربعينات، و"كل ده كان ليه" و"إنده على الأحرار" خلال الخمسينيات.

من الفنانين الفلسطينيين الذين اكتسبوا شهرة مع الإذاعة، حليم الرومي، الذي كان قد تخرج في القاهرة، وعازف التشيلو فرح دخيل، وعازف الكمان إحسان فاخوري، والكاهن السابق حنا الخل، الذي اشتهر بعزفه على البيانو ومهاراته في ما يخص الموسيقى الكلاسيكية الاوروبية. أما من سوريا، فقد استقطبت الإذاعة لمدة طويلة المطربة السورية ماري جبران، وعازف البزق محمد عبد الكريم، ومن لبنان إيليا بيضا، وصابر الصفح (بلبل الأرز) وفلمون وهبي.

في هذا السياق يقول توفيق الباشا "كانت الألوان اللبنانية تقدم في فلسطين بأصوات ممتازة وفي إطار فني محترم، بينما كانت مادة فنية مرذولة ومضطهدة في إذاعة بيروت الناشئة وتقدم كمادة هامشية وبأصوات رديئة". ولا ينفصل هذا الإهتمام باللون اللبناني عن تبني الإذاعات الفلسطينية للفولكلور، خصوصاً إذاعة الشرق الأدنى التي اعتمدته كأساس لتلحين الأغاني الكلاسيكية. ينقل الياس سحاب عن صبري الشريف، الذي كان يدير القسم الموسيقى في الشرق الأدنى، أن الموسيقي المصري عبد الحليم نويرة، وضع خلال الاربعينيات، عشرات الألحان التي تعتمد على جمل موسيقية فولكلورية من بينها "سلم عليّ" التي غنتها ليلى مراد، لكن غالبية هذه الأغاني ستُفقد خلال الأحداث التي شهدتها فلسطين العام 1948.

شارك لبنانيون أيضاً في هذه التجربة، من بينهم الشاعر أسعد سعيد الذي بدأ بجمع الأغنيات الفولكلورية بتكليف من الإذاعة، علماً أن خطة الجمع هذه هي التي بنت عليها البرامج الإذاعية الموسيقية الشهيرة للأخوين رحباني في سلسلة اسكتشات "روكز خطب" وروكز تزوج"، حين تحولت الإذاعة إلى حلقة تجمّع لأبرز الموسيقيين اللبنانيين الذين قاموا في الخمسينات بالنهضة المعتمدة على الفولكلور مع زكي ناصيف وتوفيق الباشا وعفيف رضوان... مع إبقاء صبري الشريف على دوره الإستشاري والتوجيهي.

(*) تركز هذه المقالة على الشق الثاني من الكتاب، الذي يتحدث عن الموسيقى العربية الكلاسيكية، سياقات انتشارها في فلسطين، وأبرز المؤسسات التي لعبت دوراً في تطورها

(**) من أبرز المغنين والموسيقيين الفلسطينيين الذين كانوا معروفين خلال تلك الحقبة، يذكر الكتاب: عبد السلام الأقرع الذي عُرف بإنشاد التواشيح الدينية، المغنية وعازفة القانون خيزران، ثريا قدورة المطربة القديرة وصاحبة الصوت الجهوري، فروسو زهران عازفة العود والمغنية. أما من الرجال، فيذكر الكتاب الحاج جمعة، وكان صاحب فرقة آلات النفخ التي كانت تظهر في كل المناسبات الشعبية العامة والخاصة، حسن وحسين القرعان، رجب الأكحل، محمد السباسي الذي اشتهر بأداء الأدوار والقصائد، وحسين النشاشيبي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024