"لا نستطيع أن ندفع، لن ندفع" للينا أبيض...استسهال الضحك

منى مرعي

السبت 2019/02/02
ليس هنالك توقيتٌ أكثر ملاءمة لتقديم نص "لا نستطيع أن ندفع، لن ندفع" لداريو فو من أيامنا هذه. رغم أن لينا أبيض قدمت العرض في بيروت منذ ما يقارب العام في إطار جامعي مع الجامعة اللبنانية الأميركية، الا أن إعادة تقديم "ما فينا ندفع، ما رح ندفع" وسط كل المعمعة السياسية والاقتصادية التي يعيشها المواطن اللبناني، تبدو خطوة متقنة من المخرجة ومن فريق عملها. 


النص الذي كتبه وأخرجه داريو فو العام 1974، ينقل أحداثاً متسارعة متوثبة عن سيدات، يقررن الاحتجاج لارتفاع الأسعار داخل سوبرماركت، وذلك نتيجة التضخم الذي بلغ حداً قياسياً مما يدفع حوالي مائة امرأة الى اتخاذ قرار بأخذ مشترياتهم دون دفع المبالغ المطلوبة منهن أو بدفع جزءٍ يسير منها. بمعنى آخر قررن سرقة بعض البضائع ومحاصرة صاحب المتجر...

من بين السيدات، كانت أنطوانيت التي أخذت ما أخذته وعادت الى المنزل بسرعة خوفاً من الشرطة التي توزعت في الحي بحثاً عن النساء السارقات. أنطوانيت (دارين شمس الدين) وريتا (هبة سليمان) وسائر نساء الحي اضطررن الى اخفاء هذه البضائع، فادعين أنهن حاملات، وكانت ريتا أول من أصيبت فجأةً بالحمل بعد أن دفعتها جارتها أنطوانيت لذلك. هذا التدبير الذي قامت به أنطوانيت لم يكن خوفاً من الشرطة، فقط بل أتى أيضاً تجنباً لمجابهة ضارية مع طوني (سَني عبد الباقي) ومطانيوس (رافي فغالي) زوجَي كل من أنطوانيت وريتا. هما عاملان في مصنع متمسكان بقوة بالقانون وبعدم ارتكاب أية مواجهات أو مشاكل أياً كان نوعها.  وهكذا بشكل تهكمي يعتمد نمط الملهاة الهزلية أو ما يُعرَف بالfarce-الفارس، تتوالى المطاردات والمشاهد التي يبنيها فو، لتمرير مواقفه السياسية من الرأس مالية – هو الاشتراكي الذي مُنع من دخول أميركا لسنوات بسبب مقارعته لحكم النظام السائد. واذ بالمشاهد يتلقف وبشكل عفوي وذكي جداً اشارات اجتماعية سياسية كتبها فو في السبعينات، ولكنها قادرة على محاكاة أي زمن وأي مكان وأي حكم يتفشى فيها الفساد والظلم: الشرطي الأول (هشام خداج) الذي دخل الى منزل طوني بحثاً عن السيدات السارقات، والذي يبوح لطوني أن النساء معهن حق وسط استغراب هذا الأخير الذي أصرّ على الإلتزام بالقانون والذي يبدو واضحاً أن هذا الإلتزام مربوط أيضاً بفكرتي الخوف وبالاستسلام للوضع القائم، جرأة النساء ومبادرتهن الى التغيير التي تحاكي بشكلٍ ما الانشطة النسوية الراهنة، اختلاق الأساطير الدينية للنجاة عبر القديسة أوليليا وزوجها أوليليو وتقاطعها اليوم مع شتى أنواع التطرف الديني والآليات التخييلية التي استخدمت لاستقطاب المزيد من التطرف، حكاية حبة منع الحمل التي اختلقتها أنطوانيت والتي تشير الى موقف الكنيسة الكاثوليكية من هذه الحبوب، ويجدر هنا القول أن فو أوقف عروض "لن ندفع" عام ٧٥، ليكتب في غضون أربعة أيام "Fanfani Rapito” دعماً لحملة حول تشريع الإجهاض الخ. 


النص الذي أعدّته ولبنَنته لينا أبيض، كتلة من السخرية اللاذعة والنقد الذكي الذي لا ينبثق الا ضمن سياق الأحداث بلا أي مباشرة أو إسقاط مفتعل. اللهجة المصرية التي اعتمدت بين حينٍ وآخر أضفت مزيداً من المرح والإمتاع، لكن ثمة مبالغة في استخدامها بالأخص في المشهد الأخير من العرض، حيث بدا تقديم تلك الجمل المصرية لعبة استهلاك لاستدرار المزيد من مساحات الضحك بين الجمهور. كما وقع العرض في بعض الكليشيهات في خيار الأغاني وتنفيذ الرقصات التي بدت مجانية وفقيرة في طرحها خاصةً مع ضعف الإضاءة.   

من ناحية أخرى، قدّم الممثلون بشكل عام أداءً متقناً لشخصياتهم: دارين شمس الدين التي عرفها الجمهور في أعمال سابقة للينا أبيض، ظهرت في "ما فينا ندفع، ما رح ندفع" أكثر تميزاً، وبرز النص ملكاتها الاتثنائية في التمثيل الكوميدي. هبة سليمان كانت على درجة عالية من العفوية بينما طوّع سَني عبد الباقي مرونته الجسدية، ليضفي جواً بهلوانياً طريفاً على العرض، وكان حضور هشام خداج محبباً لدى الجمهور، وإن لم يكن هناك الكثير من التنويع في أدائه... يحسب  للينا أبيض حسن اختيار طاقم ممثلين، جميعهم بارعٌ في الأداء الكوميدي،  ولكن كان يستدعي الأمر أحياناً العمل على التفاصيل الصغيرة في التمثيل مع  بعض الكسر في الأداء أو إيلاء بعض اللحظات التمثيلية مكانةً إيقاعية مختلفة.

من المؤكد أن لينا وطاقم ممثليها أضافوا مساحةً جميلة في حيز الكوميديا في بيروت، ولكن هنالك أمرٌ بالغٌ في أهميته وجب التفكّر به: لستُ بصدد أن أتقمص موقف الامبراطور فريديريك الثاني الدوني من المهرجين، والذي أتى على ذكره داريو فو في رسالته التي ألقاها بعد فوزه بجائزة نوبل العام 1997، اذ أجاز الامبراطور للمواطنين إهانة وضرب المهرجين وكان هذا عام ١٢٢١. ولن أقلّل من شأن الجهد المبذول ولكن هنالك نوعا من استسهال في عملية الإضحاك أو لنقل أنه توظيفٌ لم يكتمل بعد - رغم أنه لا مانع أبداً من الإضحاك وعلينا قبل كل شيء، أن ندافع عن المسرح المضحك والمتهكم على حد قول فو -  لكن يجب العودة الى اللحظة الراهنة ووجب التفكير في طبيعة الجمهور اللبناني اليوم المختلفة عن جمهور السبعينيات الذي لن يرَ من هذا العرض الا استهلاكاً ممتعاً آخر، وهذا ما يناقض عمل فو.

لربما على لينا أبيض أن تشدّد أكثر على خيارات اخراجية تبرز العوامل الجدلية التي تميز بها فو في اشتغاله على الفارس... وهذا ليس بعيداً عن مسار أبيض المسرحي الملتزم بأغلبه بقضايا اجتماعية. اللحظة الاستثنائية المستفحلة في يأسها التي يعيشها المواطن اللبناني تستحق التفاتةً ما: لحظة استدراك واحدة - خلال أو بعد العرض - خارج إطار الإمتاع لن تضر!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024