يوميات سياسي خائف

أسعد قطّان

الأربعاء 2019/11/13
يستيقظ السياسيّ من نومه باكراً. يفرك بأصابعه بقايا النوم المكوّم في عينيه. يتساءل عن سبب التعب الغريب الذي ينتابه منذ أيّام. ثمّ يتذكّر أنّ ما قضاه خلال الليلة الماضية لا يصلح لأن يدعى نوماً. فهو أشبه بستارة من أرق تتخلّلها ثقوب من إغفاء، ثقوب مدوّرة، صغيرة، تكاد لا تُرى بلا نظّارة طبّيّة سميكة.

غريب مذاق القهوة اليوم. هي من النوع الرفيع، هديّة من أحد أصدقائه الذوّاقة: مدير مصرف كبير يجول العالم بحثاً عن أجود أنواع القهوة والشاي. ماما خاتون لا يضارعها أحد في تحضير القهوة. والأصحّ أنّها لا "تعدّ" القهوة، بل تعدّ للفناجين مزيجاً من ألق وموسيقى. فلماذا لا يشعر بطعم البنّ الفاخر تحت لسانه يعيد له الشعور بأنّ الحياة "تمنحه دلالها"؟

منذ اندلاع "الحراك" وهو مصاب بفوبيا المحطّات التلفزيونيّة. بعضها يقلّل من قيمة الانتفاضة الشعبيّة. ولكنّه مع ذلك لا يتوانى عن نسبتها إلى مؤامرة شيطانيّة على الله والوطن من صنع الخارج. أويكون الفرنجة ساذجين إلى هذا الحدّ ليؤجّجوا حراكاً محدوداً محكوم عليه أن يخبو ثمّ يتلاشى بعد أيّام كما كتب البارحة بعض  الصحافيّين الثاقبي النظر، وكلّهم من أصحابه والغيارى على مصالحه؟

يتّجه السياسيّ بخطوات متثاقلة إلى نافذة قصره. منذ ثلاثة أسابيع ورجال الشرطة يسوّرون القصر بالبنادق والعصي والحواجز الباطونيّة. لكنّ هذا كلّه لا يحول دون مجيء الناس. يتحلّقون حول حامية القصر، يمتشقون بيارقهم، يرقّصون الأرزة في أعلامهم، يصدحون بالهتاف، ويُسقطون بحناجرهم حكم الأزعر. يعربد الربيع في أصواتهم التي أرهقها الفقر وزيّحها الجوع. هذه الحناجر تنغّص عليه قهوة الصباح. وحين ينام، يحلم بها ثمّ يهبّ من نومه كالكلب المسعور فيرى بأمّ عينيه كيف يتحوّل الرقاد إلى أرق.

طول النهار يتناهى إليه عجيج الناس من خلف النافذة. السواتر التي زرعها رجال الشرطة لا تمتصّ الضجّة. من أين يأتي كلّ هؤلاء البشر؟ أين كانوا قبل أن تتسيّد الأناشيد على ساحات المدينة؟ كيف خرجوا من جحورهم؟ كيف تمرّدوا على أولياء نعمتهم؟ كيف يجرؤون أن يطالبوا بدولة وهم لا يستحقّون تنكة كاز؟

يذهب السياسيّ إلى النافذة كي يتأكّد من أنّ صراخ الناس لم يمزّق السواتر بعد، وأنّ حامية قصره لم تسلّم سلاحها بعد. ثمّ يطلب من ماما خاتون أن تعدّ له فنجان قهوة لعلّه يُخرس الصداع الذي يصدّع رأسه. في خارج القصر صراخ لا ينقطع، وفي داخل القصر خوف يشبه سواد الليل حين يلتحف الليل بالسواد. يقول السياسيّ في ذاته: "لقد دقّت الساعة وآن لهذه اللعبة أن تنتهي". وإذا بالعجيج يردّد صدى كلماته: "نعم نعم، دقّت الساعة وآن للعبة أن تنتهي".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024