مظفّر النوّاب والأسد وزمن الشتيمة

محمد حجيري

الأحد 2021/02/07
مع انتشار صورة الشاعر (اليساري) العراقي مظفّر النوّاب على سرير المرض، وقد بدا عليه وهن العمر، وأرفقت الصورة بعبارة "مُتعبٌ منّي ولا أقوى على حملي"، يعود إلى اذهاننا، زمن كانت قصيدته "تل الزعتر – بنت الصباح"، من المحظورات، وقد أدّاها بصوته، وانتشر الشريط(الكاسيت) في الأروقة الثقافية وحتى الشعبية ككتاب سمعي... صارتْ القصيدة "كنز" الغاضبين على الاستبداد ونظام الأسد العسسيّ (بالمعنى السياسي)، صارت "الرأي" الشعبوي والشارعي الذي يتبناه جمهور عريض في توصيف القادة العرب في زمن حب فلسطين... هي قصيدة ادّاها النوّاب بصوت ينوح ويتصاعد ويتأرجح ويثمل، كلماتها بين الشعبوية والسوقية، بين الشتيمة والاندفاع الثوري، بين صراخ الشاعر والمفردات الحادة، بين الخطابية والافتعال، ردّد الناس كلماتها، وركّزوا على عبارة "ديّوث الشّام وهدهده"... وتساءلوا، من يقصد بالديّوث، اتّفقوا على أنّ الديّوث هو حافظ، والهدهد هو خدّام... كأن القصيدة بالنسبة لجمهور عربي(فلسطيني، لبناني وسوري...) عريض كـ"ثأرٍ" معنوي من طاغية فتك بالأبرياء، ودمّر مخيماً على رؤوس أهله.

كانت القصيدة الشتائمية السِّياسيّة الغاضبة، نوعاً من بيان سريّ في زمن القسوة والخوف والذلّ... من يقرأ الشعر ومن لم يقرأه، يتذكّر عبارات النوّاب الشهيرة.. كان الثوريون وكارهو الاستبداد وما يسمى "الرجعية العربية"، يشعرون بالانطراب وهم يسمعون قصيدة شاعر "الوتريات" بصوته ورنته الصَادحة... هذه النبرة الساخطة، ربما طغتْ في وجدان الناس، على شعر النوّاب الحقيقي وتجلياته وتصوّفه وعشقه وخمرياته وحتّى كربلائياته الحسينية، وهو (أي النوّاب)، كان اختار لغة شتائمية نابية في قصيدته، لأن "ابْتذال اللغة على قدر ابْتذال الأنظمة العربية" بحسب زعمه...

  السؤال الذي يراودني منذ سنوات، كيف استطاع صاحب عبارة "ديوث الشّام" أن يعيش في الشّام؟ هل غفر له حافظ الاسد؟ هل كان النوّاب على صلة بالأسد؟ نعرف أن الأسد كان يتعاطى بـ"ذكاء" مع الأسماء الثقافية الكبيرة والرموز، من فيروز وعاصي إلى زكريا تامر ومحمد الماغوط، لكنه في الوقت نفسه يغضب على اسماء كبيرة مثل نزار قباني بسبب قصيدة. 

ليس هناك وضوح في العلاقة بين الأسد ومظفر النوّاب الذي كان له منزله الخاص في دمشق، المدينة التي فضلها على بيروت... الأرجح ان نظام الاسد غضّ النظر عنه نكاية بنظام صدام حسين الذي فتك بالكثيرين من المعارضين والمثقفين، والكثيرون منهم لجأوا إلى دمشق، بينهم مظفّر الذي جال على عواصم عربية وغربية، منها بيروت وليبيا وموسكو وبراغ، ومنذ التسعينيات اختار النوّاب دمشق للإقامة فيها. كان يكتفى بداية بالجلوس في مقهى الهافانا، في شارع 29 أيار، وفي سنواته الأخيرة اعتزل في بيته، ولم تتوقف الإشاعات حول تلك الإقامة، بعضهم قارنها بالإقامة العابرة للشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري في الشام، وهذا الأخيرة قدم قصيدة شهيرة في مديح حافظ الاسد صارتْ نشيداً يقدّم يومياً قبل نشرة الأخبار. ثمة فرق جوهري بين النواب والجواهري يتمثل في أن الاخير مدح معظم الملوك والرؤساء العرب، بينما النوّاب هجاهم (واستثنى ذلك الجالس في خيمته، أي القذافي!؟ الذي بحسب المعلومات أعطى النوّاب راتباً شهرياً وجواز سفر ليبي... بمكان ما ثمّة من يقول ساخراً ان هناك كيمياء بين شعر النواب الشتائمي، وخطب القذافي التهريجية، الأول يقول "قمم قمم معزة على غنم"، والثاني يهتف: "طز في أمريكا")...


  غضّ نظام الأسد النظر عن النوّاب صاحب القصيدة الشهيرة، في المقابل كان النواب يعدّل في نبرات قصائده التي تأتي على سيرة الشام، في البداية قال "ماذا يطبخ تجار الشام على نار جهنم؟"، وفي "باللون الرمادي" يرى دمشق جنة مرّ فيها الله: "يا جنة مر فيها الله ذات ضحى لعل فيها نواسيا على قدحي 
فحار زيتونها ما بين خضرته وخضرة الليل والكاسات والملح...
وفي مكان اخر يكتب:
"دمشقُ عدتُ بلا حزني ولا فرحي
يقودني شبحٌ مضنى إلى شبحِ
ضيّعتُ منكِ طريقاً كنت أعرفه
سكرانَ مغمضةً عيني من الطفحِ
دمشق عدتُ وقلبي كلّه قرحٌ
وأين كان غريب غير ذي قُرحِ
هذي الحقيبة عادت وحدها وطني
ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
أُصابِحُ الليل مصلوباً على أملٍ
أن لا أموتَ غريباً ميتةَ الشبحِ"


©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024