"راديو الحارة"، تطبيق خيام اللامي، وقهوة السودان..فنون كورونا المثمرة

حسن الساحلي

الخميس 2021/03/11
في ختام مهرجان "ريدزون" (من تنظيم "المورد الثقافي") نُظمتْ جلسة حوارية حول ثيمة "الحجر والإبداع"، أدارتها قيّمة المهرجان رشا صلاح، وشاركت فيها مجموعة من الفنانين والناشطين الثقافيين.

بُثتْ الجلسة عبر "راديو الحارة"، وهو منصة من المنصات الإبداعية التي ولدت خلال فترة الحجر، كردّ فعل على إغلاق الفضاءات العامة في مدينة بيت لحم. بعد تأسيسه، تمدد المشروع إلى بيروت ومدن عربية وأوروبية، ليصبح اليوم الراديو الأكثر شعبية ضمن هذا النوع من المنصات، بـ120 برنامجاً موسيقياً وحوارياً شهرياً، من تقديم نخبة من الموسيقيين ومنسقي الاسطوانات والباحثين المقيمين حول العالم.

مثّل الراديو، ضمن الجلسة الحوارية، يوسف أنسطاس، وهو مهندس معماري ساهم في تأسيس الراديو إلى جانب موسيقيين آخرين. تحدث أنسطاس في الجلسة عن بدايات المشروع منذ عام تقريبا (آذار 2020)، ووصف التجربة بـ"العضوية" والمفتقدة للتخطيط المسبق، إذ اتّبعت حينها نمطاً من البث المفتوح الذي يمكّن أي شخص من مشاركة ما يريده، بلا قوانين أو معايير مسبقة (كان على الراغب في المشاركة فقط حجز مساحة زمنية لنفسه عبر روزنامة الراديو). بعد وقت قليل، امتلك الراديو شعبية عند الجمهور، الذي بدأ بمتابعة منسقي الإسطوانات Djs المفضلين لديه، والذين كانوا قد توقفوا عن العزف في المقاهي والأندية الليلية التي كان جمهورهم يرتادها سابقاً.



ولم ينحصر الأمر في موسيقيي بيت لحم، بل ضمّ موسيقيين عرباً وأجانب، سيستفيدون من هذا الفضاء الصوتي العام والمعولم، الذي تجاوز بسرعة وظيفته الأساسية باستبدال الفضاءات العامة إلى وظيفة أكثر تشعّباً. يقول أنسطاس إن المنصة تمثّل "عودة إلى قالب بسيط"، بما اننا نعيش في زمن نتعرض فيه يومياً إلى فائض من المعلومات البصرية، إن كان في مواقع التواصل أو القنوات الاخبارية أو حتى الفضاءات الفنية، وكلها بدأت تقدم المواد الثقافية والإبداعية بطريقتها منذ بداية الجائحة. لذلك يأتي هذا النوع من المنصّات بشيء من البساطة الصوتية التي لا تعقيدات فيها. كما أنه يمثل حلّاً أفضل للبعض من تطبيقات الموسيقى (مثل ميكس كلاود) التي تضيّع المستمع في الخيارات الكثيرة التي تقدمها... مقابل نقرة واحدة في حالة الراديو تأخذك مباشرة إلى عالم موسيقي وصوتي لا يتوقف على مدار اليوم.

طبعاً لم يكن "راديو الحارة" ليحظى بهذه الشعبية لولا الجائحة التي أعطت الجمهور، وفق أنسطاس، الصبر والنفَس الطويل، للإستماع، كما منحت الموسيقيين وقت فراغ يسمح لهم بتخصيص ساعة أسبوعياً من أجل لعب الموسيقى، وهو ما لم يكن ممكناً في السابق. مع العلم أن الجمهور في حالات كثيرة هو الموسيقي نفسه: "الفصل بين الموسيقيين والجمهور ليس سهلاً، ففي حالات كثيرة هم الفئة نفسه"، ما ينطبق بشكل عام على مجالات فنية أخرى، يتشكّل جمهورها من الفاعلين ضمنها (من العناصر المهمة أيضاً في الراديو غرفة المحادثة Chat Room التي تتحول أحياناً إلى مساحة للنقاش الفني).

أضاءت الجلسة الحوارية أيضاً على عمل منال سويسي، رئيسة الجامعة التونسية لأندية السينما، التي تضم 30 نادياً في مناطق مختلفة، توقفت جميعها عن العمل بسبب جائحة كورونا. تشكل هذه الفضاءات عنصراً مهما في الوسط الثقافي التونسي، وأصبحت اليوم شبه غائبة في بلدان أخرى مثل لبنان، الذي استعاض عنها بالمهرجانات السينمائية (رغم الفارق الكبير بين النمطين، واستحالة استبدال النادي السينمائي الذي يشكل مكاناً للنقاش والتبادل الثقافي، أكثر ديموقراطية من المهرجان ذي البرمجة المحددة سلفاً، والمحدود في الإنتاجات الحديثة). تعمل هذه الأندية في قاعات تابعة لوزارة الثقافة التونسية، وهي بديل من الصالات السينمائية قليلة العدد أصلاً في تونس، وتكمن أهميتها في نشر الثقافة السينمائية واحتواء النقاشات التي تحصل بعد عرض الفيلم، بينما تعتمد برمجتها بشكل أساس على أعمال من نوع "سينما المؤلف".

ورغم انتمائها إلى وزارة الثقافة، إلا أن هذه الفضاءات يسارية الهوى غالباً، شكلت على مدى 70 عاماً من عمر الديكتاتوريات المتعاقبة، "فضاءات سياسية بديلة"، التقى فيها المثقفون للتفكير ونقاش طرق المقاومة المرنة، لذلك كانت دائماً محل استهداف من السلطة السياسية. أما بعد مرحلة كورونا، فقد اضطرت هذه الأندية للتحول إلى الفضاء الافتراضي، وتحديداً إلى موقع الجامعة، الذي بدأ عروض أفلام بشكل أسبوعي، لكن طبعا غيّب ذلك النقاشات العفوية التي كانت تجري سابقاً (أطلقت الجامعة أيضاً مبادرة لتعليم التحريك Stop motion للأطفال عبر فيديوهات تعليمية تم تحميلها في موقع الجامعة).



من الموسيقيين الذين استضافتهم الجلسة الحوارية، العازف والباحث العراقي، خيّام اللامي الذي تحدث عن تعاونه مع مهرجان CTM في برلين لتأسيس مشروع، كان قد بدأ العمل عليه قبل الجائحة: "كنت متعباً من العروض الحية، السفر، والتنقل الدائم، الذي ينعكس تشتتاً وتعباً نفسياً وذاتياً. لذلك قررت البحث عن أشكال جديدة لمشاركة إنتاجي مع الجمهور. لم تتغير هذه الرغبة بعد الحائجة، حيث وجدت نفسي أمام كم هائل من المعلومات والمواد الفنية والموسيقية، التي تتبع العلاقة التقليدية/السلطوية نفسها بين المتلقي والمنتج، والتي كانت موجودة قبل الجائحة. من هنا أتت رغبتي في خلق مساحة فنية أكثر تشاركية، تشمل المتلقي كعنصر أساس في عملية الخلق، وتكسر مركزية الفنان ضمن العمل الفني، معيدة النظر في هذه العلاقة "السلطوية" بين المنتج والمتلقي. المشروع يقع ضمن الـGenerative Music وأحد عناصره الأساس، عبارة عن تطبيق يستخدمه الموسيقيون/المتلقون، ويمكن من خلاله خلق موسيقى عبر نظام تشغيل يعتمد على Parameters يحددها المستخدم، تنتج نفسها ثم تبث بشكل مباشر على الشبكة. من العناصر الأخرى في المشروع، تطبيق خاص يسمح للموسيقيين بحجز مساحة خاصة لبث موسيقاهم بشكل مباشر عبر الشبكة، من دون المرور بنظام التشغيل الأول.

واستضافت الجلسة الحوارية أيضاً، الكاتبة والمخرجة المسرحية ليلى سليمان (مصر)، فتحدثت عن مشروعها الأخير الذي اضطرت لتحويله إلى عرض افتراضي، رغم أنه يعتمد بشكل أساس على جلسات تفاعلية وطقوس حميمة (كانت الفنانة سابقاً معارضة بشدة لتحويل المشاريع المسرحية/ورش العمل إلى عروض افتراضية). وينقسم المشروع قسمين، "جلسة قهوة" مع نساء/لاجئات من السودان وإريتريا في ألمانيا، ومقابلة مع واحدة منهن لتتحدث عن تجربة الختان. في المقابلة، يتعرف المشاهد على حياة المرأة الشخصية والحميمة، إذ تخبره عن تجربة الختان التي تعرضت لها. أما في الجلسة، فتقرأ المرأة طالع المشاهد في سياق طقوس شرب القهوة في السودان، حيث تلعب الرائحة وترتيب الفضاء المكاني دوراً في كيفية تلقي المُشاهد للعرض. أهمية المشروع تكمن في اختلاف ميزان القوة بين المقابلة والجلسة. في الأولى، تكون المرأة في موقع سفلي، تحت سلطة المخرج/المشاهد (لاجئة في بلد آخر، وضحية تخبر معلومات شخصية عن تعرضها للختان). أما في الثانية، فتصبح في موقع أفضل، تمتلك سيطرة على الحاضر (عبر تحديد طقوس الجلسة) والمستقبل (قراءة الطالع).

في العرض الافتراضي، يتحول المشروع إلى لقاء عبر تطبيق "زوم"، يتألف الجزء الأول من شريط صوتي للمقابلة يستمع إليه المتلقي، ثم لقاء لقراءة طالعه. لكن قبل قراءة الطالع، على المتلقي أن يُعدّ القهوة بمكونات تُرسل بإيميل خاص، لخلق شروط الطقس الحميمي نفسها. وفق سليمان، اختلفت درجة نجاح التجربة من متلقٍ إلى آخر، بحسب استعداده وجهوزيته لعيشها. لكنها النتيجة نفسها التي يمكن الوصول إليها في المسرح أيضاً، حيث تحدد جهوزية المتلقي واستعداداته النفسية، الكيفية التي سيتلقى بها العرض أمامه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024