باسيل البطل المتعثّر

رشا الأطرش

الثلاثاء 2020/11/10
.. وقد تجاوز العونيون مرحلة إثارة الاستفزاز، أو حتى السخرية. يكاد متابعُهم يشعر نحوهم بالشفقة. جماعة لبنانية لا ينقصها شيء مما تملكه الكانتونات الأخرى من مقومات الطائفية والعصبية والزبائنية، لكنها تُحرم الآن من "بطلها". 


القائد المؤسّس، البطل الأول، والوحيد ريثما تُستكمل صناعة وريثه، مقيّد بعجَزه وأمراضه وصلاحياته. كان الإنكار مسكّناً مؤقتاً لآلام أتباعه الذي تشبثوا بتلابيب كاريزما عسكرية متقادمة. لكن مونتاج الماشطة لم يصلح في خطاباته المتلفزة ما أفسده الدهر، ولا أسعفه تفاقم الأزمة الوطنية وتشعبها المستعصي. جبران باسيل كان أملهم الوحيد. وجاءت العقوبات الأميركية الأخيرة، بخلوّها من أي إشارة إلى التحالف مع "حزب الله"، وبتركيزها على الفساد، ثم الكشف الفضائحي الذي أتقنته السفيرة الأميركية في بيروت، لتقصم ظهر المسيحية العونية التي راهنت على باسيل كبرعم نابت على مثال حسن نصر الله أو سعد الحريري أو حتى وليد جنبلاط، وفي الوقت نفسه صبّرت نفسها بمسعى تطويب البطريرك الحويك قديساً لتحظى بـ"عليّها" – الإمام المقاتل حائز الخلافة ولو كره الكارهون، أو بـ"محمّدها" – النبي السياسي والقائد العسكري ذو الإنجازات الدولتية لإمبراطورية. فالمسيح المترفّع عن شؤون الأرض لا يلبي هذه الحاجة، والكنيسة ليست بالبأس الذي كانته في أوروبا الصليبيين... ثم هبّت العقوبات بما لا تشتهي السفن البرتقالية.

بدرجات وتلاوين متفاوتة، تحققت شروط البطولة لسائر الطوائف اللبنانية. نصرالله، إلى الكاريزما الظلامية، يمتك الدِّين والنِّسبة لآل البيت، مع السلاح والقوة والتمويل والشبكة النفعية الاقتصادية-الاجتماعية، وفوق ذلك، ابنه شهيد. كذلك الحريري، ابن شهيد مُغتال، وهو نفسه كان مهدداً بالاغتيال، تجرع السمّ أمس، واليوم حليب السّباع. وجنبلاط، ابن المعلّم، الشهيد أيضاً، لكنه حفر لنفسه منزلة المحنك، البطل الذي، في قصص الأطفال، ينجو وقَومه، بذكائه ومناوراته، من أشرار عمالقة مفتولي العضلات.

أما جبران باسيل، فلا نال المقادير اللازمة لأسطَرَة محلية، ولا أسعفته السياسة المودرن التي يدّعي، ولُطّخت الآن بالفساد الذي ما عاد شعاراتية محلية لم تنل يوماً من مسؤول مهما كانت دامغة.

السياسة اليوم، في أنحاء العالم، ما عادت مُنجبة أبطال. فنحن في عصر فائق الشفافية، بضلالاته وطوحين هوائه، كما بالبدائل التي باتت متوافرة للجميع. الإعلام واقتصادياته وأجنداته، السوشال ميديا، والعولمة بشتى أدواتها، ما عادت لتسمح للسياسة، ولا حتى للنضال الموازي، بإنتاج أيقونات. أبطال هذا العصر، أفراد، أصحاب قضايا إنسانية ذات قيم كَونية، إطفائيون وفرق إنقاذ، مطلقو الصافرات عبر الإعلام البديل، صحافيون وناشطون معتقلون، ضحايا صراعات وانتهاكات، ومبادرون إلى حملات تمسي فيروسية في الساحات الالكترونية. أما في الكوكب اللبناني، فحتى فوج الإطفاء ومجموعات المتطوعين، في سردية انفجار مرفأ بيروت، لم يصبحوا أبطالاً مكرّسين. في أفضل الأحوال، شهداء مهنة، وشباب يكبّر القلوب ويستجرّ دمعة مجانية. فيما المشانق المعلّقة "للأبطال"، في ساحة الشهداء، لم تنل من هالاتهم التي تُفدى بالأرواح.  

جبران باسيل لم يطل عنب العالم الجديد الذي يُفترَض انتماؤه التاريخي إليه، كزعيم مسيحي صاعد.. ولا نال بلح موطنه كماروني مشروع وريث لرئاسة الجمهورية. وضاع مناصروه، وأصابتهم حَولةُ حُسنِه.

عبثاً يحيي العونيون موضة قديمة، إذ ينفخون بالون "غيفارا 2020" في بحر دبابيس وتناقض فجّ بين خطاب باسيل المُعاقَب إلى الداخل اللبناني، وخطاب معاكس كشفته السفيرة شيا فما عاد حكراً على آذان الخارج. والعونيون، في ذلك مساكين، ليس فقط لأنهم فاتهم أننا في زمن اللا حدود بين "داخل" و"خارج"، رغماً عن وزير خارجية صَدَفَتُه العالَم. ولا لمجرد أن محاولاتهم البالونيّة مقطوعة الأنفاس (ونصّ العقوبات) لا تستوفي شروط "المقاومة"، سواء بلُغة "حزب الله" و"أمل"، أو بالمعايير الأممية. بل أيضاً لأنهم يناقضون، بالصورة هذه، المعنى الأساس لتيارهم الطائفي والسياسي: الانفتاح على الغرب ومفرداته، حوكمته وثقافته، اللبننة الفائقة بالضد من أي بُعد (عربي، إسلامي،..)، إلا بما نحا غرباً أو صبّ في بوتقة "أقليات المشرق". حزب الله معتاد على "أمريكا الشيطان الأكبر"، وللبقية امتدادات عصبوية يتلطون بها. لكن العونيين لمعاداة الولايات المتحدة، وربما لاحقاً أوروبا؟ مفتعلة وهجينة، هذه المعركة، حتى في عيون العونيين، مهما عاندوا.

في كتابه الشهير "البطل ذو الوجوه الألف"(1949)، يفنّد الأميركي جوزيف كامبل سِمات "الأسطورة الأحادية" (monomyth)، مستنداً على ميراث البشرية من الأساطير، حيث البطل -ليصبح بطلاً- ينطلق غالباً من عالم العاديات إلى فضاء العجائب وخوارق الطبيعة، ليواجه قوى خرافية وينجز نصراً محتوماً. هو البطل الذي يخرج أولاً بمساعدة مُرشد معلّم، يجتاز الحدود المحروسة الآمنة، إلى عالم لا ينطبق عليه المألوف من القوانين والأنظمة، يشقّ فيه طريقاً ملغّماً بالتحديات، والأرجح بمساعدة حلفاء، تصاحبه استعارات الموت والقيامة. ثم يعود من رحلته الملغزة بقوة تؤهله إسباغ النِّعَم على أبناء جلدته.

مشكلة باسيل والعونيين، مشاكل: العالم اللبناني الذي ينطلق منه هو العجائبي، المتفلّت من كل قوانين الطبيعة وسُنن القانون، حيث لا محاسبة لفاسد أو متورط في جرائم ليس أكبرها انفجار 4 آب. والفضاء الذي كان يشد رحاله إليه، ليأتي بالنّعم لناسه، هو المحكوم بأطر واضحة لا تُجابَه بالشعوذات اللبنانية المعتادة من قبيل أمهلوني لأراوغ.. أميركا. أما المعلّم المزعوم، ففي غيبوبة اليقظة. وأما الحلفاء، فهم الآن معضلته، دون العدو الأميركي الذي ما كان في حسبان العونية المسيحية يوماً استعداؤه. لا قوة الحلفاء تستطيع صناعة بطولة باسيل بين "شعبه"، ولا نِعَمهم ستتسرّب إلى بني عون. لم يتسرّب إليهم سوى فواتير التحالفات، من دون حتى نزر يسير من مجد تسميته. لا قيامة في الأفق، فقط الموت الرخيص.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024