ميشال عون: الغموض الهش

فوزي ذبيان

السبت 2021/10/30
ليس من الضرورة بمكان أن يستبطن الغموضُ العمقَ، فالغموض في تصوره الأعم هو صنو الريبة وعدم الاستقرار.
أما وقد مرت خمس سنوات على الإتيان بالجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، يحق لي كمواطن لبناني أن أسأل من هو الجنرال عون. طبعاً لا يستبطن السؤال تقليلاً من شأن فخامة الرئيس، لا سمح الله، وأيضاً هو لا يشكّل مقدمة تقريظية من قريب أو من بعيد.

بالأساس، فإن السؤال قد طرأ بعفو الخاطر أثناء تقليبي صفحات من كتاب الاسباني فرناندو آرابّال "رسالة إلى الجنرال فرانكو"، ساعة انتظاري انتهاء "الميكنسيان" من تغيير كوابح سيارتي في محلة الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت. كنت هناك أراوح نظراتي بين كتاب آرابّال بين يدي من جهة، وشرطي السير الذي كان يعمل على تنظيم مرور السيارات من جهة ثانية، ثم صورة ضخمة لحسن نصرالله من جهة ثالثة.

وقع في قلبي وذهني الكثير من الظن والتخمين لدى انكبابي على محاولة الإجابة على هذا السؤال، ورأيتني في حيرة من أمري حيال الخيوط التي عبرها قد أتلمس شروط الجواب.

ثمة فرنسي كتب كتاباً عن عون وعنونه بـ"يا شعب لبنان العظيم/ التمرد 1988- 1990" أجاب عن السؤال أعلاه (في مرحلة من مراحل عون) بالقول: "يرتدي – أي الجنرال عون – بزة مرقطة وينتعل حذاءً عسكرياً أسود. مستدير الوجه، جفونه متعبة وعيناه داكنتان. إلا أن ملامح وجهه لا تدل، رغم ذلك، على أثر للتعب. حتى أن همومه الكبيرة بدت أعجز من أن تنال من خديه المستديرين. رغم مظهره العسكري، فإن هذه المدفعي كان بروحه المرحة وسرعة خاطره أشبه بالطفل المدلل...".

من النافل أن ما خطه هذا الفرنسي الثرثار، لا يلبي لهفة السؤال وتدافعه في الذهن، إذ إن الأجندة الإنفعالية التي غالباً ما يوظفها الجنرال عون في بيئته المسيحية تستدعي تجاوز كونه مجرد مدفعجي مستدير الخدين. فالرجل، في بعض نواحيه، تحوّل إلى خشبة خلاص لدى المسيحيين، وأكد تلك المقولة التي ترى في المجتمع آلة ضخمة لصنع الآلهة. في حديث معه قال عون مدغدغاً في ذلك أقصى مخاوف ناسه: "نحن حبة رمل وسنحاول أن نعطّل الآلة التي تسعى إلى إزالتنا"... كان ذلك بتاريخ 3 تشرين الثاني 1989، ولكن ماذا عن اليوم؟!

ثمة من يرى أن الأمور تقدم الجواب عطفاً على خواتيمها، وهناك من يقول العكس، الجواب يكمن في البذرة حتى قبل تحولها إلى شجرة ممتدة الفروع والأغصان. والبعض يرى أن الجواب يكمن في مجمل السردية من أولها إلى آخرها، بكل ما تكتنفه من طلعات ونزلات ومن وضوح وغموض، وأراني أقرب إلى هؤلاء في القراءة والتحليل.

لا تنم سردية الجنرال ميشال عون، بكل دقائقها وتفاصيلها، وبمجمل الحروب العسكرية والسياسية التي خاضها، إلا عن سعي دؤوب لأن يكون رئيساً للجمهورية، وليس في ذلك بنظري أي حرج أو مخالفة للمعتاد. ربما كل ماروني في لبنان، شاءت الصدف أن يصير موظفاً بفئة الدرجة الأولى، ترى الهوى قد مال به ناح ذاك الكرسي المترهّل في قصر بعبدا وكأني به يردد: أنا لك وأنت لي! إنما الغريب في حالة الجنرال عون، هو هذا الغموض الذي لطالما استبد بمواقفه في سعيه لأن يكون رئيساً. نعم، إن الرجل يكتنفه الكثير من الغموض وليس من الضروري، كما مر أعلاه، أن يستبطن الغموضُ العمق. إذ، أن يرتبط خطاب سياسي/عسكري ما، وفي كل مراحل تكوينه، بجملة من التخمينات والإعتقادات والعواطف والإنفعالات والطموحات الشخصية، فإن الغموض سيكون عنوانه العريض، وإن كان غموضاً هشاً. ولعل جزءاً من شعبية الجنرال يحفر عميقاً بسبب من هذا الغموض بالذات. فبالإضافة إلى الأسئلة التي يثيرها ميشال عون، فهو يشكّل فرصة نادرة للتمعن في السؤال التالي: مَنْ يصنع مَنْ؟ القطيع يصنع الراعي أو أن الراعي هو مَن يصنع القطيع؟؟

غالباً ما يعمد الجنرال إلى عنونة مصائره بعبارات تشي بالوضوح والسلاسة، وصولاً إلى البساطة في الكثير من الأحيان، إنما ارتطام هذه العناوين بجملة خياراته السياسية في مراحل لاحقة، يفي بأن يتحول الرجل إلى أحجية لا يُسبر لها غور، ليس بالنسبة إلى الآخرين فقط، إنما ربما بالنسبة إلى نفسه أيضاً، فنعود لنسأل كل مرة: مَن هو الجنرال عون؟!

إنما للتاريخ وجاهته في تشريح الحاضر والخوض فيه، وهو لا يني يتسرب عبر الشقوق الضيقة، على رأي فيلسوف ألماني إنتحر في العام 1940.

إن الماضي يجر بقاياه، كما يقول عتاة فرنسيي القرن التاسع عشر ممن تمعنوا في قراءة التاريخ. فالماضي لا يمضي أبداً، كما يقال، "إنما هو بمثابة عبوة ناسفة خطيرة قابلة لإعادة التفعيل في كل لحظة".

قد لا يكون الإنفجار المتأتي عن تلك العبوة، التي لا تني تعود، مدوياً، بل لعله يكون في عودته التالية أقرب إلى التفاهة والإستعراض. بل، ولمَ لا، قد يعود هذا الإنفجار –ولنستعر عبارة الفرنسي الثرثار- على هيئة طفل مدلل. أقول هذه العبارة الأخيرة وفي بالي الصهر... صهر الجنرال فرانكو أقصد، والذي يدعى رامون سيرانو سونيير، وعيّنه فرانكو وزيراً للخارجية في تشرين الثاني 1940، تمهيداً لخلافته في سدة الرئاسة. فسونيير هذا كان طفلاً مدللاً عند عمّه فرانكو، رغم ما كان يُتداول عن غبائه وتوقه الشقي إلى السلطة، ثم البهورة والرعونة والقفز فوق الأصول والأعراف، إلى حد أن أحد كبار الفقهاء الدستوريين في إسبانيا الثلاثينات قال فيه، في إشارة إلى عدم التمكن من الحد من طيشه ونزوعه للسلطة: "الصهر الذي لم يتوقعه الدستور"، مستعيناً في قوله هذا بدستوري ألماني كان قد قال في ابن الرئيس الألماني هيندنبورغ: "كان على المشرّع أن يأخذ بعين الإعتبار أن لرئيس البلاد ابناً غبياً"... وذلك على ضوء إقناع ابن الرئيس لوالده، التوقيع على ورقة تفاهم مع هتلر، أوصلت هذا الأخير بنهاية الأمر لأن يصير سيد البلاد، وليس من المستبعد أن يكون التوقيع قد تم في كنيسة تدعى أيضاً كنيسة مار مخايل!

في أحد ملاحق كتاب كمال ديب "هذا الجسر العتيق – وبعنوان فرعي جدير بالمرحلة – سقوط لبنان المسيحي"، يردّ الجنرال ميشال عون على أحد الأسئلة بما يلي: "لا أسعى إلى السلطة، صديقي هو كل من يسعى إلى استقلال لبنان وسيادته، وعدوّي هو كل من ليس مع سيادة لبنان واستقلاله".

أخرجني زخم أصوات زمامير السيارات المنبعث من التقاطع المحتشد من السؤال عن "متاهة الجنرال" وغموضه. كان الشرطي قد ترك الإشارة، وما أناطه به الدستور من تأمين حركة السير، وقد استظلّ صورة نصرالله، و"الميكنسيان" يضع اللمسات الأخيرة على مكابح سيارتي بينما أنا، ومن باب تزجية الوقت، كنت ما زلت أقلّب صفحات كتاب آرابّال: "كل شيء حولنا مجنون.. وبطريقة رسمية". كنت أعيد على نفسي هذه العبارة من كتاب هذا الإسباني المتشرد، وأنا أهمّ بالإنطلاق. مكابح سيارتي على ما يرام، على عكس مكابح الوطن. زاحمتُ السيارات للمرور، وقد ألزمتُ نفسي عدم الوقوع في لج الأسئلة الصعبة.

يُعتبر لبنان – من بين أشياء أخرى – تأملاً في صعوبة الإجابة على السؤال التالي: ما الوطن؟ تسلل السؤال على غفلة مني، بوَحي من الشرطي المستظل تلك الصورة الضخمة التي شدّت عيني فجأة. يقول أحد الفقهاء الدستوريين: إن القوانين يجب أن تصاغ وعينك على الرجل الشرير لا على الرجل الصالح.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024