الشيخ إمام.. حين تبنّته الناصرية

محمود الزيباوي

السبت 2018/06/23
تحت عنوان "مئة سنة حلوة الشيخ إمام"، يحتفل "مترو المدينة" ويغني بمناسبة العيد المئة للشيخ إمام في حفل يقام يوم الاثنين 2 تموز. بدأ الشيخ الضرير مشواره في مرحلة متقدمة من العمر، ولمع اسمه بعد هزيمة 1967 حين تبنّته الدولة في خريف 1968 وعمدت إلى إطلاقه إعلاميا بشكل واسع، غير أنها عادت ونبذته بسرعة وحجبت اسمه بشكل كامل.
في تشرين الأول/أكتوبر 1968، تحدّث الناقد المصري، رجاء النقاش، عن الشيخ إمام بحماسة بالغة، وتطرّق إلى تجربته الفنية في البرنامج الناجح "شريط تسجيل"، وتمنّى له الوصول إلى الجمهور العريض، وناشد المسؤولين الاهتمام بإنتاجه. وتابع هذه الدعوة من خلال مجلة "الكواكب" التي كان يومها يرأس تحريرها، ونقل في زاويته الأسبوعية في 22 أكتوبر خبراً يقول إن عاصي الرحباني استمع إلى شريط سُجّلت عليه بعض ألحان الشيخ، فقال: "هذا الشيخ إمام فنان كبير وألحانه حادثة مهمة في موسيقانا العربية". وأضاف الكاتب معلّقا: "هذا ما قاله عاصي الرحباني، والعهدة على الراوي، والراوي هو محرم فؤاد الذي حمل إلى بيروت بعض ألحان الشيخ إمام، وسمعها عاصي الرحباني منه".

في هذا السياق، تحدّث النقاش عن أحمد فؤاد نجم، وكتب معرّفاً به: "شاعر جديد يُسعد الكواكب ان تُقدّم بعض قصائده في هذا العدد. ونجم يذكرك في شعره وفي شخصيته بأمير الشعر الشعبي بيرم التونسي. انه من مدرسته ومن تلاميذه في نفس الحيوية والعذوبة والسخرية والدهاء والانطلاق الفني وسهولة التعبير. وفيه انه ابن مخلص للشعب وتجاربه ومشاعره المختلفة. وقد كان من حسن الحظ انه التقى الشاعر نجم بالملحن الشيخ امام، فكوّنا معا ثنائيا ممتازاً سوف يكون له شأن في الفن العربي خلال الفترة القادمة". كرّست "الكواكب" صفحتين من صفحاتها لهذا الشاعر الجديد، ونشرت من نتاجه ثماني قصائد، وهي: بيرم، بقرة حاحا، جوازة، الغربة، خالتي مباركة، الحاوي، عالمحطة، شوف الحكاية، على حسب وداد جلبي.
من جهة أخرى، حمل العدد مقالة أخرى تنوّه بالشيخ إمام حملت توقيع الكاتب راجي عنايت. مثل رجاء النقاش، رأى صاحب المقالة ان الشيخ إمام "موهبة تحتاج إلى الاهتمام"، وهي ابنة هذا المجتمع الذي "يتحوّل إلى الإشتراكية"، والدولة مدعوة إلى تبنّيها، لا سيّما أنها تثمر في زمن تتحوّل فيه مجالات العمل الفني إلى قطاعات عامة، منها مؤسسة للسينما ومؤسسة للمسرح ومؤسسة للنشر. اعتبر راجي عنايات ان الشيخ امام لم يصل بعد إلى الجمهور "لأنه رجل عجوز فقير، شكله غير لطيف أو وسيم، ونطاق اتصالاته الفنية والصحفية ضعيف وفقير"، وأضاف متهكّما: "ليس مهما ان يكون موهوبا، ومسألة ثانوية ان يكون الفن الذي ينتجه يشكّل احتياجا في وقتنا هذا. هذه مسائل فرعية. انما سيزيحه من الطريق فنان آخر محدود الموهبة، يعرف كيف يصل إلى ميكروفون الإذاعة، أو خشبة المسرح. من المسؤول عن هذا؟ هل هذا عيب في تطبيقنا الاشتراكي؟ هل هو عيب في تكوين مؤسساتنا الثقافية؟".

هكذا ظهر اسم الشيخ إمام إعلاميا "في زمن رسوخ الخلق الاشتراكي"، وبروز الدعوة إلى "تربية الجماهير اشتراكيا". في العدد التالي، أعلنت الكواكب تنظيمها لأمسية فنية تقدّم فيها الملحن الجديد، وقالت إن المطربة الشهيرة، فادية كامل، ستقدّم الشيخ إمام وتؤدي بعض ألحانه، وأوضحت الأسباب التي دفعتها إلى تنظيم هذا الحفل، وكتبت في هذا الصدد: "الشيخ امام مقدرة فنية جديدة ورائعة، وعندما تولد هذه المقدرة، فمن الضروري، ما دامت قد ظهرت، ان نحتضنها. قد تولد المقدرة الفنية، ولا يلتفت أحد. لأن أحداً لم يكلف نفسه عناء البحث عنها. وقد تنتهي هذه المقدرة كما ولدت، من دون ان يدري بها أحد. ونكون قد خسرنا شيئا عظيما، لكن عندما نجدها، فيجب أن نحافظ عليها. صحيح ان الفنان الشيخ امام قد عاش سنوات خلف الأضواء، كان من يعرفونه على قلّتهم، يتساءلون: لماذا لا تسلّط الأضواء على هذه الموهبة الكبيرة؟ ولم تكن هناك إجابة. والتقت الكواكب بالشيخ امام، ورأت فيه موهبة فنية أصيلة. موهبة هي بنت الظروف التي نعيشها. رأت فيه انفعالا جديدا، يمكن ان يحرك الركود الذي يسود حياتنا الغنائية، ويمكن ان يكون شاطئا جديدا، ترتاح عنه الأغنية العربية. واهتمت الكواكب بالشيخ امام، الفنان الذي ضاعت من عمره سنوات خلف ستار النسيان، لأنّها تؤمن بالمواهب الجديدة وترعاها، وتحاول بكل جهدها ان تفتح أمامها كل الأبواب والنوافذ".

في عددها الصادر في 5 تشرين الثاني/نوفمبر، عمدت المجلة إلى إبراز الحفل المنتظر. وقالت إنه سيقام في دار نقابة الصحافيين وأنها دعت إليه مجموعة كبيرة من الفنانين والنقاد "ليروا موهبة فنية جديدة يجب ان تسلّط عليها الأضواء، فتثبت وجودها". ونشرت المجلة شهادات في الشيخ إمام، منها شهادة من أحمد فؤاد نجم، وأخرى من الأديب عبد الرحمن الخميسي. استعاد أحمد فؤاد نجم سيرته مع الشيخ إمام، وقال إنه التقاه لأول مرة في سهرة أقيمت في منزل صديقه سعيد الموجي الكائن في حارة حوش قدم، في منطقة الغورية، وأن صاحب الدعوة قال له يومها: "عايز اعرف رأيك في راجل فنان اصيل ما حدش عايز يعترف بيه، قال ايه دقة قديمة". في هذه السهرة، "غنى الشيخ لمشايخ الملحنين وجهابذة الطرب"، وكان "يعطي الألحان القديمة العظيمة إضافات لا تقل غنى وأصالة عن الألحان الأصيلة نفسه". تكررت اللقاءات، فسأله نجم: "لماذا لا تلحن يا مولانا؟"، فقال: "مش لاقي الكلام الكويس"، فردّ عليه وقال: "طيب انا عندي كلام". مرّ شهران، ولم يلحن فيهما الشيخ إمام أي من القصائد التي أمدّه بها الشاعر، إلى أن تمّ اللقاء بشكل مباغت في سهرة أخرى أقيمت في منزل سعد الموجي. في هذه الأمسية، قرأ نجم من شعره، وأخد الشيخ يردد المقطع، وفي خلال خمس قائق ولد أول عمل مشترك بينهما، "وبعدها انبثق النبع المتدفق ليغرقنا في بحر من الألحان المصرية الأصيلة النغم الشجي النابع من أعماق بيئتها الشعبية الخصبة". بحسب رواية الشاعر، هكذا جمع المطرب بين الأداء والتلحين، ولحّن العديد من أشعاره، كما لحن من أشعار فؤاد السبكي، محمد جاد، حسن الموجي، وفؤاد قاعود، و"الفنان الذي ينتج هذه الكمية الرائعة في مثل صمت وتواضع وفقر الشيخ امام، هو بغير شك فنان عبقري".

في المقابل، كتب عبد الرحمن الخميسي في شهادته: "سمعت الشيخ امام، فبهرتني سيطرته على الأنغام، وطواعيتها له. انه يغترف من قلب مصر، ويصوغ مشاعرها في لغة النغم المصري، وهو ينحو نحو منحى التصوير المذهل، فيصور الأنين والسرور كما يصور السخرية، مستقاة من طبائع الانسان المصري، ومسقية من تراث، ومورقة في تطلع جديد. ويقيني انه ليس للشيخ امام نظير بين الملحنين المصريين من حيث قدرته على التصوير الفني. هناك ظاهرة أخرى جديرة بالتسجيل حول الكلمات التي نظمها احمد فؤاد نجم والألحان التي صاغها لهذه الكلمات الشيخ امام. ان الشعر الشعبي واللحن يؤلّفان لدى المستمع وحدة عضوية واحدة لا يمكن ان ينفصل جزء منها عن سواه، فلا يصوّر الكلام شيئا يغترب عن اللحن، ولا يتّجه اللحن إلى منحى لا يصوّره الكلام. والحقيقة ان هناك تعانقا بين الصياغتين في الشعر واللحن من نوع ذلك التعانق الذي يجعل الاثنين واحدا. وعندي ان الشيخ امام واحمد فؤاد نجم يستطيعان ان يشقا طريقا جديدا للحن المصري وللكلمة الشعبية المصرية، وهو تتويج لأحلامنا الطيبة في خلق الحان مصرية أصيلة ليست مستوردة ولا تضع المساحيق فوق وجهها، وانما تبلّ ملامحها السمراء بقطرات من مياه النيل، وتلّوحها الشمس، وتمضي رافعة الهامة من خلفها أغاني الحقول، ومن امامها أناشيد المصانع".

أُقيم الحفل في الموعد المحدّد، وشارك في الغناء الصوتان "الجديدان" ليلى نظمي ومحمد حمام. واحتفلت الكواكب بالحدث، ونشرت في 12 تشرين الثاني/نوفمبر تقريرا مفصلا حوله. كان عدد المدعوين أربعمئة، فحضر ألف مستمع، و"تحقّق لأول مرة خروج الحان الشيخ امام من دائرة الأصدقاء والمعارف والدعوات الخاصة على مستوى أرحب، الى اللقاء الحي مع الجماهير". غنت فادية كامل "حي على الفلاح"، وأعادتها أكثر من مرة تحت الحاح جمهور الحفل. وغنى الشيخ إمام، وردّد الجمهور ألحانه بحماس وحرارة، "وكانت موجة الاعجاب والحماس تتصاعد بين الجميع حتى وصل الشيخ الى لحنه العظيم عن غيفارا، فانفجر الاعجاب والحماس الى حد هستيري".

خرج الشيخ إمام من دائرة الظل، وغنّى في حفل زفاف الناقد الفني مجدي نجيب بمشاركة ليلى نظمي، وبات حديث المثقفين والنقاد. في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، توقف الناقد الموسيقي كمال النجمي أمام هذه الظاهرة، ووصفها بـ"موضة الموسم الفني بلا جدال"، وكتب في تحليله لهذه التجربة الغنائية: "سمعت حتى الآن من ألحان الشيخ امام ما يكفي للقول بأنه لن يكون موضة الموسم الحالي ثم يتوارى وينساه المستمعون. فالشيخ امام يرتبط بحركة الغناء العربي الحضاري والشعبي، وهي ليست حركة عابرة، وانما هي حركة اصيلة انضجتها في عصرنا عوامل عميقة تتصل بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. وهو يرتبط بهذه الحركة ارتباط من يريد ويحاول ان يضيف اليها، لا من يكتفي بالسير وراءها بلا جهد ولا ابتكار. وهذا ما أتاح له، وهو الشيخ القديم، ان يبدو جديدا في الأسماع، بل ان يبدو أكثر جدة من بعض المجددين. وليس عجيبا ان تكون للشيخ امام هذه الصورة الجديدة عند الناس، وهو الشيخ القديم الذي لم يأت بجديد، ولم يخرج قيد أنملة عن المقامات العربية والإيقاعات التي يعرفها جميع الملحنين، ولم تبارح أداءه لكنة الأداء القديمة التي نعرفها عن المشايخ الفنانين ومطربي الجيل الماضي. فالحقيقة ان الجديد في الشيخ هو توظيفه إمكانيات الغناء العربي التقليدي في التعبير المباشر الصريح اللاذع عمّا يملأ صدور الناس، ويفور في حياتهم اليومية العادية".

فتح هذا المقال باب السجال، فنشرت صحيفة "الأهرام" مقالة حول علاقة المثقفين بالشيخ إمام، ورد حسن حفني على هذه المقالة في مقالة مطوّلة نشرتها "الكواكب" في 17 كانون الأول/ديسمبر. دخل محمد عبد الوهاب في هذا النقاش حين استضافه وجدي الحكيم في برنامج "ليالي الشرق"، وقال إن ألحان الشيخ إمام تنتسب إلى مدرستي سيد درويش وزكريا أحمد، وأبدى اعجابه بقدرته على الأداء، ورأى أن "متحمس سواء في أدائه او في ألحانه".

في الخلاصة، ظهر اسم الشيخ إمام بشكل مفاجئ وسطع إعلاميا في خريف 1968، ثم عاد واختفى بشكل شبه كامل في السنة التالية. تخلّت "الكواكب" عن الفنان التي تبنّته بشغف، وحجبت أسمه بشكل تام، وكذلك فعلت الصحافة المصرية الرسمية. تتضارب الروايات في هذا الشأن، والأكيد أن الشيخ إمام أكمل مشواره مع أحمد فؤاد نجم في المعتقل، قبل أن يعود ويبرز عربيا في السبعينات، متخطيا الحدود "القومية" التي رسمتها له الصحافة المحلية في بداية انطلاقته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024