الموسيقى للتخلص من رواية الماء

روجيه عوطة

السبت 2019/06/08
أصدر الفنان ريمون جميل ألبوماً فوتوغرافياً بعنوان "مواطن صوتية"(بدعم من آفاق)، وقد تضمن صوراً التقطها لعشرات الموسيقيين من العالم العربي في أمكنة اختاروها على أساس مواءمتها للأصوات التي يصنعونها. في كيس الصور الأسود، وبينها، وضع الجميل نصوصاً، التالي منها. 

تستقر الصلة لفظياً بين المسقى من جهة، والموسيقى من جهة أخرى، لكن هذه الصلة تتكشف عن كونها لا تؤدي إلى تطابق طرفيها بفعل مقارنتهما أو مقاربتهما، بل إنها، وعلى العكس، تفيد بكون واحد منهما يأتي قبل ثانيه، الذي وحين يلحقه، يحول دونه، أو بالأحرى يكون بمثابة ختامه.

فالمسقى هو القناة التي تجر الماء من موضع إلى غيره، وذلك، بحسب تضاريسها، التي، ولما يمر الماء بها، يترك مفعوله في حركته، مخففاً أو مشدداً إياها: يسرع انحداراً، يبطئ ارتفاعاً، ينزل في حفرة، يسيل في منبسط. إلا أن الماء لا يتوقف عن جريانه، وصحيح أن فعله هذا محدد بالمسقى، بمسلكه وشكله، غير أنه، وحين يعبره، يؤرّضه، وهذا التأريض بذاته هو الذي يكفل مذهبه صوب موضع، يكف فيه عن بروئه، الذي يصير بروكاً، فيقلع الماء عن إخلاء الموضع، الذي أقبل منه، ليبرك في الموضع، الذي قدم إليه. والأخير ليس سوى المظمأ، أي موضع العطش، الذي، وحين يبلغه الماء، يسده، وبالتالي، يرويه حتى يستحيل منبتاً.



في هذا المنبت، يعيش المستمعون إلى الموسيقى، حيث أن المسقى قد وزع ماءه بالتفاوت عليهم، فملأ بعضهم، وشح في بعضهم الآخر، وأبقى غيرهما من دونه. فكل مستمع من هؤلاء رواه الماء بطريقةٍ، ما جعل من رواياتهم روايات مختلفة، وهم، عندما يمضون إلى الموسيقى بآذانهم، فلكي ينتهون من هذه الروايات. يحدث هذا الإنتهاء عبر التخلص من الماء، الذي حضر فيهم، إذ أن الموسيقى تسحبه منهم، وذلك، بالتجفف، وأحياناً، بالتنشف، وفي كل حين، بالتعطش.

مثالان على أثر الموسيقى هذا. 
المثال الأول: أثناء الإستماع إلى الموسيقى، تشتغل الذاكرة، أي أن المستمع يتذكر، الأمر، الذي لا يعني أنه يستدعي مجموعة من الأشياء، ولتسمى صوراً، التي كانت قد جرت معه في السابق، بل يعني، في الأصل، أن هذه الأشياء، أو الصور، تبارحه، فهي كانت محبوسة فيه، وها هي تنعتق منه، مثلما ينعتق منها. لذا، تذكره ليس استرجاعاً لماضي، بل استرجاعاً لمستقبل، لا ظهور له بلا تبددها. هذه العملية، عملية التذكر كإسترداد للاحق، من الممكن القول أنها التجفف، إذ إن المستمع يتجفف من تلك الأشياء-الصور، وخلال ذلك، تتبخر، مخلفةً الرطوبة وراءها، فبعد أن ارتوى بها في زمن وقوعها، يتذكرها، فيلفظ ماءها منه، وكلما لفظه أكثر، يحرز الآتي. طبعاً، ليس متاحاً ضرب هذا المثال بلا إشارة بسيطة إلى العلاقة بين الماء والصور، بحيث أن الماء، وحين يصور، يعوج، فالصور هي، في هذا السياق، ماء مال عن أرضه.

المثال الثاني: أثناء الإستحمام، يشتغل المغنى، فالمستحم يغني، وذلك، عندما يترطب جسده بالماء، وينفرج، ويطلع على جلده المبلل. من هنا، الغناء، أو التطريب، كمد للصوت على إيقاع بعينه، هو درء للماء، وتقليل للترطيب، وبعبارة أخرى، هو ضرب من ضروب التنشف. فالغناء خلال الإستحمام هو إمتصاص للماء بفعل الصوت المتناغم، محاولة للتفلت منه عند هبوطه على الجسد، وعند تفريقه له عن صلابته وجموده. التطريب، وهو مقلب من مقالب الموسيقى، ينشف الجسد، معيداً تحديد مساحته، وكأنه أرض أيضاً، بعدما جعله الماء رحباً. في النتيجة، يغني المستحم لكي ينتج جسداً منفرجاً يغاير الجسد المغلق الذي كانه، والجسد المبلل الذي رواه الماء، أي لينتج جسداً ناشفاً، وفي الوقت نفسه، مفتوحاً.

إذاً، التذكر بفعل الموسيقى هو تجفف من الصور التي تتكون من ماء مائل، كما أن التطريب خلال الإستحمام هو تنشيف للجسد، ومسح للماء عنه، وفي الحالتين، ثمة تخلص من رواية الماء. بذلك، تكون الموسيقى نزع للمنبت عن المسقى، وإطلاق لهؤلاء الذين يعيشون فيه، وهذا، من خلال قلبهم من مليئين بالماء، الذي جرى صوبهم ورواهم، إلى فارغين منه، إلى عطشى، معلمةً إياهم بأن موضعهم قد يبس، وقد حان وقت توجههم إلى غيره. على هذا النحو، تعمل الموسيقى: تنتشر في منبت، تقطعه عن مسقاه، تجفف ماءه، وتنشفه، وتدفع قاطنيه إلى هجره على متنها. متن الموسيقى؟ انسياب العطش، الذي يحثهم على البحث عن واحة، وعلى تحديد أرضها به.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024