فقاعة الكرة المصرية Vs فقاعة محمد صلاح

أحمد شوقي علي

الجمعة 2019/06/21
في ليلة 14 نوفمبر 2009، وقبل انطلاق المباراة المصيرية بين منتخبي مصر والجزائر ضمن التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2010 في جنوب إفريقيا، كانت قلوب المصريين وعيونهم معلقة كلها بقدَمَي محمد أبوتريكة، لأنه وبسبب الهدف الذي سجّله في مرمى الجزائر، قبل تلك الليلة بـ17 أسبوعاً، حافظ على آمال بلاده في الصعود إلى المونديال، ولم يتبق له إلا ثلاثة أهداف أخرى يسجلها بنفسه أو بمساعدة من زملائه في الفريق ليحققوا الأمل الغالي. لكن الكاميرا التي كانت تنقل المباراة من استاد القاهرة، لم تنشغل سوى بجمال مبارك الذي جاء خصيصًا ليدعم بلاده من أجل تحقيق "النصر".

على مدار أربعة أشهر، ومنذ الهزيمة الثقيلة التي تلقاها المنتخب المصري في 7 يونيو 2009، في ملعب مدينة البُليدة الجزائرية، بثلاثة أهداف مقابل هدف وحيد سجله أبوتريكة، قبل أربعة دقائق فقط من انتهاء الوقت الأصلي للمباراة، كإشارة غيبية على مؤازرة السماء للمصريين؛ والجماهير في القاهرة تعلق جلّ أمالها على ذلك اللاعب، حتى إنهم صنعوا له وحده من دون الفريق أغنية: "تريكة يا فنان عايزين تلات أجوان". وفي ليلة 14 نوفمبر، بدا أن السماء مازالت تنظر إلى المنتخب المصري بعين الرأفة، فبعد 95 دقيقة مملة لم تشهد سوى هدف وحيد للفراعنة، استطاع اللاعب عماد متعب، وقبل ثوان قليلة من إطلاق صافرة النهاية، أن يسجل الهدف الثاني لفريقه، ليمنح بلاده فرصة أخرى للتأهل عبر مباراة فاصلة تجمع المنتخبين، بعد تساويهما في عدد النقاط والأهداف. وبدلاً من أن تركز كاميرا اللقاء على رصد الفرحة العارمة للجماهير واللاعبين، وبدلًا من تأطير صورة عماد متعب الذي منح منتخبه الوطني أملًا جديدًا، انشغلت برصد المقصورة الرئيسة التي يجلس فيها نجل الرئيس الأسبق، وأمين لجنة السياسات في الحزب الوطني. وكأن المخرج الذي قطع على صورة جمال مبارك، وهو يحتفل بالفوز ويتلقى التهنئة ممن حوله، هو صاحب الانتصار الحقيقي، وليس اللاعبين أو الجهاز الفني، وكأن المباراة ساحة لمعركة أخرى تتعدى حدود كرة القدم.



فقاعة كرة القدم
كان نظام مبارك، خلال سنواته الأخيرة، يستثمر، وبشكل جيد، إنجازات المنتخب الوطني لكرة القدم، وتحديدًا منذ العام 2006، حين استضافت مصر النسخة الـ25 من كأس الأمم الأفريقية. ليس لقدرة اللعبة على إلهاء "الجماهير" عن مشكلات بلدانهم، لكن لأن "الفقاعة" التي صنعتها الرياضة العالمية الأشهر كانت قادرة على تشكيل هوية الشعب المصري، وملء الفراغ الذي كان يشعر به جراء الخيبات المتتالية على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، وكأن الانتصارات التي كان يحققها المنتخب المصري في كرة القدم انتصارات جَمعية، يشعر من خلالها المصريون بوجودهم، وكأنها انتقامهم الجميل الذي يقول عنه المخرج الصربي إمير كوستاريكا إنه في مباريات كرة القدم "يمكنك أن تؤثر في العالم وفي قدرك الخاص، من دون مال في جيبك أو قنبلة ذرية (...) يمكن لأمم صغيرة أن تنتصر بشكل ملحمي على القوى الأعظم، وأن تنتقم انتقاماً جميلاً".

لكن الباحث السويدي كارل روميل، يرى أن نظام مبارك كان يستفيد بشكل آخر من تلك "الفقاعة"، حيث إنها كانت فرصته الوحيدة، في ظل افتقاره لأي قدرات خطابية، للاندماج بالمواطنين والتأثير فيهم. وهو ما سيبدو صحيحًا لدى تأمل اللحظات التي بدت فيها صورة العائلة المباركية ذات تأثير كبير في وعي الجماهير، إذ لا يمكن نسيان صورة سوزان مبارك وهي تلوّح بالعلم المصري من المقصورة الرئاسية عقب فوز مصر بالكأس الإفريقية العام 2006، أو قُبلة حسام حسن قائد المنتخب المصري على رأس مبارك بعد التتويج، وهي الفرضية التي تفسر أيضًا التصعيد السياسي الذي أعقب المباراة الفاصلة بين مصر والجزائر في أم درمان بالسودان العام 2009، لأن تلك الهزيمة كانت ستجعل المصريين يصبون غضبهم على النظام، لولا نجاحه في تصويرها كنتيجة للخديعة واللعب غير النظيف. وهو الأمر الذي تم استثماره في صالح مشروع توريث الحكم لجمال مبارك، وتم في سياقه تأطير ما قام به جمال مبارك من اصطحاب للمشجعين المصريين الخائفين من أحداث العنف في طائرته الخاصة، وكذلك تأطير جملة علاء مبارك الشهيرة بأن من يسبّ المصريين سيضرب بـ"الجزمة" على رأسه!

فقاعة محمد صلاح
ورأى روميل، خلال الندوة التي نظمها المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة الأحد الماضي، تحت عنوان "سياسية المشاعر فى كرة القدم"، أن تلك الفقاعة التي لم يصنعها نظام مبارك لكنه نمّاها، انفجرت مع ثورة يناير 2011، وانتهت تمامًا بعد حكم الإخوان، لأسباب عديدة أبرزها تغير نمط تشجيع الكرة واختصار تعريف "المشجع" في انتمائه من عدمه إلى دائرة روابط الألتراس التي اكتسبت مزيدًا من الحرية بعد الثورة، وبالتالي خروج التشجيع من حيزه كنشاط جمعي يمارسه الشعب بشكل عام بغض النظر عن اهتماماته الكروية، إلى دائرة أضيق كالألتراس. وكذلك ساهمت في انتهاء تلك الظاهرة، الأحداث المؤسفة التي شهدتها مباراة فريقي "الأهلي" و"المصري" في استاد بورسعيد العام 2012 وراح ضحيتها 72 شخصًا من أعضاء ألتراس أهلاوي، ثم منع الجمهور بعد ذلك بفترة من حضور مباريات الكرة بشكل عام، فضلاً عن الخيبات المتتالية للمنتخب الوطني خلال السنين الماضية.

لكن فقاعة أخرى بدأت في النمو، أشار إليها روميل خلال استعراضه النتائج الأساسية لبحثه، قبل أيام قليلة من انطلاق بطولة كأس الأمم الأفريقية (تنطلق البطولة اليوم الجمعة في استاد القاهرة)، وهي ما أطلق عليها اسم "فقاعة محمد صلاح"، غير أنه مر عليها سريعًا من دون تقديم أي إيضاحات أخرى حولها، رغبة منه في تضمينها كتابه الذي يعمل على إصداره قريبًا ويستعرض النتائج التي عمل عليها في بحثه. وهو الأمر الذي يدفع للتساؤل حول الكيفية التي سيتعامل بها النظام المصري الحالي مع الفقاعة الجديدة، خصوصاً أنها تمثل قيمة مضادة لكل ما مثله أبوتريكة ورفاقه.

وقبل تدبّر هذا السؤال، نحن بحاجة إلى معاينة آخر: هل يسعى نظام الرئيس السيسي إلى إعادة إنتاج فقاعة جديدة لكرة القدم، اقتداءً بنظام مبارك؟
بحسب روميل لم يعد من الممكن إنتاج "فقاعة كرة" جديدة، لأن الشعب المصري أصبحت لديه حساسية كبيرة تجاه استغلال عشقه لكرة القدم سياسيًا، خصوصاً –والكلام هنا للباحث السويدي- أن ذكريات عصر مبارك ألقت بظلالها على المشاعر التي واكبت تأهل مصر لكأس العالم والخروج المهين منه.

لكن النظام الحالي يولي أهمية شديدة لتنظيم الدورة الجديدة من البطولة الإفريقية، ويسعى عبر طرق مختلفة لإثبات نجاحه التنظيمي ذلك، بدءًا من استحداث منظومة جديدة، ذات صبغة أمنية لشراء التذاكر تحت عنوان "تذكرتي"، مرورًا بتجهيز بعض الاستادات وتطويرها في وقت قياسي، وإطلاق قناة جديدة هي قناة "تايم سبورت" لبث البطولة في التلفزيون الأرضي باستثمارات قد تفوق ما قد يتطلبه إطلاق قناة فضائية رياضية ضخمة، وانتهاءً بإبراز اهتمام رأس الدولة بلقاء المنتخب القومي لمؤازرتهم وتحفيزهم للفوز بالبطولة. بيد أن هذا الاهتمام لا يمكن فصله عن فقاعة أخرى موجودة بالفعل، ويسعى النظام الحالي لتغذيتها بشدة، وهي ما يمكن وصفه بفقاعة "الإنجازات الكبرى"، والتي تتطلب أن تنفذ الدولة كل مشروع ترعاه بحيث تجعله يبدو إنجازاً عالمياً.

وفي ظل رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي، يجب أن تخرج البطولة بصورة تثبت استحقاقها لتلك الرئاسة، كما لو أن الصورة التي ظهر بها الرئيس السيسي بين أفراد المنتخب الوطني تشبه إلى حد ما صورة بينيتو موسوليني بين لاعبي المنتخب الإيطالي العام 1934 وهو يحفزهم للفوز بالكأس التي تنظمها بلاده لأن مجد إيطاليا الفاشية، يجب أن يحوز كل المجالات بما فيها كرة القدم!

أما "فقاعة صلاح"، فهذه أيضًا، وبحسب فهمي لما طرحه روميل عن نظام مبارك، لن تتمكن فقاعة النظام الحالي من استيعابها. فمنتخب الساجدين الذي كان يقوده أبوتريكة، كان يمثل إنجازًا جماعيًا مدعومًا من السماء، وكان موطن قوته غيبيًا وعائداً إلى صلاح جميع أفراد الفريق واتصافهم بالتدين والأخلاق، رغم امتلاكه عناصر مهارية كبيرة مثل أبوتريكة ومحمد زيدان وغيرهما، وهو النموذج الذي كان يغذي شعور مواطن يعتبر ما يعانيه من ظلم نتيجة مباشرة لفساده الأخلاقي وابتعاده عن تعاليم دينه. على النقيض، يُطرح محمد صلاح كنموذج لإنجاز فردي غير جمعي، قائم رغم محافظته الواضحة، على الاجتهاد الشخصي، وهو النموذج الذي وإن بدا صالحًا لتغذية فقاعة الإنجازات، سيبدو عصياً جداً على الاندماج داخلها، ليس فقط لفرديته التي تهدد نظام يختصر جميع الإنجازات لصالح رأس السلطة وحده، وإنما أيضًا لأن إنجازه ذلك يتحقق في بيئة لا يمكن لذلك النظام السيطرة عليها ودمجها داخل فقاعته كإنجاز فردي يصب في صالح إنجازاتها الكلية. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024