موسيقيو الميتال في سوريا بين حربين

علاء رشيدي

الأحد 2019/06/30
تفرض المجتمعات العربية والسلطات المسيطرة أحكام قيمة على العديد من الأنواع الفنية التي تنتجها الإنسانية، وتمارس جميع أشكال التحريم والتضييق والمعاقبة على محبيها، متذوقيها، ومنتجيها. وموسيقى Metal music، أحد هذه الأنواع التي عانى روادها التضييق، التحريم، لمجرد الإنصات إليها أو التحلي بجمالياتها. لقد قامت العديد من حملات الإعتقالات في أعوام التسعينيات من القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن، للمستمعين والمتابعين لهذا النوع الموسيقي، مما يمنع المجتمع من التنويع في آرائه الفنية والجمالية.

تطورت موسيقى الميتال، خلال السبعينيات من القرن الماضي، وانتشرت هذه الموسيقى في العديد من المجتمعات والبلدان. يؤكد المختصون فيها على أنها تحمل ثورة في الموضوعات التي عالجتها الأغاني، وتجديداً في التعامل مع الآلات الموسيقية والنظر إلى الألحان المغناة. لكن بعض الديار العربية وقفت منها موقفاً سلبياً، سواء من قبل المجتمع أو من قبل السلطات الحاكمة.

في إطار عروض مهرجان "الأفلام حول حقوق الإنسان والهجرة"، قُدم فيلم "موسيقى الميتال في سورية هي حرب"، من إخراج منذر درويش، يحاول الإضاءة على تجارب موسيقيين ومنظمي حفلات متخصصين في موسيقى الميتال في سورية. يوضح صانع الفيلم منذ البداية أن الإهتمام بالموسيقى الميتال في سورية الآن، عزفاً وتقديماً للحفلات، يواجه صعوبات متعددة أهمها النظرة الإجتماعية والسياسية التي تحارب هذا النوع الموسيقي، وحالة الحرب التي تعيشها الأرض السورية، فيقول: "هذا ما يجعل الإهتمام والإنتاج في موسيقى الميتال مواجهة مع الثقافة الإجتماعية، ومواجهة مع العنف الذي تعيشه البلاد. فصناعة الموسيقى، وليست صناعة الحرب هي الغاية الأساسية لموسيقيي الميتال".
على خريطة غرافيكية لسورية، نتابع صانع الفيلم وهو ينتقل من مدينة إلى أخرى من المدن السورية في محاولة لعكس التجارب الموسيقية في مجال الميتال. يبدأ من مدينة اللاذقية التي تنعم حالياً بنوع من الأمان بالنسبة لباقي المدن السورية، وبالتالي فقد لجأ إليها العديد من عشاق الميتال القادمين من مدن أخرى، فإزدهرت فيها أداءات وحفلات هذا النوع الموسيقي.
في اللاذقية، نتعرف على تجربة علي خليل الرائد في هذا المجال الموسيقي يتكلم عن مرجعياته الموسيقية، وعن فرق عالمية حملت في أغانيها موضوعات مهتمة بقضايا المجتمع. وهو حريص مع فرقته ( Slumpark Correctional) على تقديم الأغاني الملتزمة في ألبومها "الحلم تحت التدمير"، (2005)، وألبوم "تهديم الشرق"(2008)، الذي يضم بين أغانيه أغنية بعنوان "خط الحدود" التي تنتقد الديكتاتوريات.
المغني بشار هارون من الفاعلين الأساسيين في موسيقى الميتال السورية، ترك مدينته حلب وتوجه إلى اللاذقية لينشط في تنظيم حفلات هناك. منذ العام 2003، أسس فرقة  Ominous، أو "المشؤوم"، ويخبر في شهادته تجربة تعرضه للإعتقال في العام 2008، لعشرين يوماً بسبب تهمة "عبدة الشيطان". 
تنتقل مجريات الفيلم إلى مدينة حلب، ويتابع الاستعدادات التي تقوم بها مجموعة من الموسيقيين لإقامة حفلة لموسيقى الميتال تحت عنوان "العزف تحت الحصار"، هذه المشاهد تعرفنا على المصاعب التي يواجهها الراغبون في تحقيق حفلة موسيقية في ظل الأوضاع الصعبة من التفجيرات، الهجمات، والقذائف التي كانت تتعرض لها مدينة حلب، نتابع صعوبة الدخول إلى المدينة، والطرق المعقدة التي يجب على الموسيقيين سلوكها لتجنب الحواجز والصدام مع المسلحين.
في حلب، نتعرف على Buzz cafe، وهو المكان الأخير والوحيد الذي يقيم ويحيي حفلات لموسيقى الميتال في المدينة. يشكو صاحبه غارو من صعوبات العمل في ظل الأوضاع الأمنية الصعبة ونقص الكهرباء.
فرقة Chaos/ فوضى، وفرقة ( Theoria) تمكنتا من الإستمرار في تقديم الحفلات في حلب رغم الحرب، ويروي الموسيقيون في ظل الحرب عن صعوبة اللقاءات، والتدريبات الموسيقية. يقول أحمد الآغا، Theoria في شهادته: "كانت الأشهر الأولى في حلب هي الأصعب، لكن رغبة الناس في الحياة تستمر رغم القذائف والموت"، ويؤكد على أن موسيقى الميتال تحمل رسالة سلام، وفسحة للهروب من العنف الدامي. 
في حلب، وقبل سنوات، ظهرت المحاولات الأولى لموسيقى الميتال السورية، تظهر في الفيلم شهادة مهمة للرائد الأول لموسيقى الميتال السورية المغني Jack Power، لقد أقام عام 1989 الحفلات الأولى في قلعة حلب، حضرها حينها ما يقارب 6000 شخص، ويذكر في شهادته عدة حفلات أقامها في السنوات 1992، 1997، 2002. في البداية كانت فرقته تحمل اسم ( Weltshemz ) ولاحقاً بدأ بتقديم الحفلات بإسم (جاك بور).
ننتقل بعدها إلى مدينة دمشق العام 2014، مع محمود دمشقي الذي حاول أن يجمع الموسيقيين من حوله لكتابة الأغاني وتسجيلها، وأسس فرقة ( Netherion)، يخبر عن صعوبة التجربة في ظل الظروف التي تعيشها المدينة، فيقول: "حالة من الإنهاك، الناس مصابون بالإحباط، وهناك صعوبة في تحفيز الموسيقيين للإنتاج. نحن نلجأ للإستديو للعزف والإنعزال مع الموسيقى. وبرغم أن مدينة دمشق عايشت الكثير من الأزمات مؤخراً، الحرب، الموت، السفر وهجرة الموسيقيين، إلا أنني أتلمس بداية تشكل حركة فنية تعنى بموسيقى الميتال". منذ العام 2008، يعمل فادي مساميري في دمشق على تأسيس استديو ( Old Hearth studio)، بغاية تجميع الفرق الموسيقية وعقد اللقاءات، هدفه تشكيل موجة فنية جديدة لموسيقى الميتال. أما تيمة الأغاني التي يقدمها فهي مليئة بإدانة العنف، وبيع الأسلحة. وتدعو أغانيه إلى عيش تجارب الحياة دون تحفظات، والإنفتاح على الأفكار الجديدة، تقول إحدى أغانيه: "الحياة أكثر من مجرد صلاة، فلنعش الهارموني بدون تحفظات".
يأخذنا الفيلم في جولة في بعض الإستديوهات وأماكن عمل فرق الميتال في دمشق، لنستكشف أن المدينة غارقة في أصوات القصف، والرصاص. يقول الموسيقي عبد الله أحد شخصيات الفيلم: "في دمشق، هناك أصوات القذائف والرصاص وأصوات مولدات الكهرباء فقط"، من ثم يأخذنا الفيلم إلى مدينة حمص، وهي من أكثر المدن السورية التي عرفت مواجهات وتجربة دامية في الحرب، يذكر محمد حموي من فرقة (Haxml) عن بداياته: "كان العام 2010 عاماً مبشراً لفعاليات موسيقى الميتال في حمص، إلا أنه وبعد العام 2011 بدأت الحرب المسلحة تجعل من المهمة مستحيلة، فأدى ذلك إلى هجرة الفرق عن مدينة حمص وتوزع الموسيقيين بعيداً عنها" حين تزور كاميرا الفيلم كنيسة أم الزنار والتي أقيمت فيها حفلات موسيقى الميتال في الأعوام 2003 – 2004، يراها المشاهد الآن مكاناً مدمراً بالكامل، تتنقل فيه الكاميرا عبر الأنقاض.
أيضاً، حكاية أخرى نموذجية من مدينة حماه، تبين كيف يمكن للموسيقى أن تتضرر من الحرب. فبعد أن تعرضت ضيعته لتفجير، ترك عازف الغيتار، يبقى مجهول الهوية في الفيلم، آلته، وحمل بدلاً عنها السلاح. يقول: "في هذه الفترة لا أتوقع العودة إلى الموسيقى مجدداً، نحن في حالة حرب"، هذا نموذج من الحكايات التي تدفع الشبان في الحرب إلى هجر الآلات الموسيقية، وحمل السلاح بدلاً عنها. وفي مدينة دير الزور في الشرق السوري، نتعرف على تجربة موسيقية بإسم (E.Metalian)، الذي يخبر عن صعوبات العمل الموسيقي وانقسام المدينة بسبب النزاع المسلح، وتأثير المتطرفين دينياً على المشهد الموسيقي في دير الزور.
من سورية إلى بيروت في العام 2014، المدينة التي شهدت نزوح عدد من الموسيقيين السوريين إليها فإنتعش فيها مشهد موسيقى الميتال. يبين الفيلم، أنه ولطالما اعتبرت بيروت منفذاً للموسيقيين السوريين. رواد مسيح موسيقي سوري، رحل قسراً عن سورية، وهو يحمل الجنسية الكندية، لكنه يفضل البقاء في بيروت، وذلك لرغبته في البقاء في المنطقة حسب تعبيره. عادل سفلو من فرقة (Ambrotype)، هو آخر من نظم حفلة موسيقية في حلب قبل وقوع الحرب، انتقل إلى بيروت، يخبرنا عن صعوبة تنظيم الحفل الأخير في حلب: "كان هناك تهديدات من قبل متطرفين في تفجير الحفل، حاولنا تغيير الموعد، وتغيير مكان الحفل عدة مرات، ورغم كل هذه المخاطر، امتلأت القاعة او الباحة بالحضور، وبقيت الموسيقى تعزف حتى منتصف الليل". يروي عادل سفلو كيف استلهم أغنية من مجموعة قصصية "عن الذاكرة والموت" لسعدالله ونوس، يكتب في أحد أغانيه: "في مدينة حيث العتم يسود، لا بد من نور".
أما باسم دعيبس فهو موسيقي لبناني من فرقة (The Hourglasse)، فيخبر عن صعوبة تجربة إقامة حفلة فنية في حلب في العام 2007، اذ تعرض الجمهور للمساءلة من أجهزة الأمن بعد نهاية الحفل. أنس، من فرقة (Exphoria) موسيقي سوري يقيم في بيروت، يقدم شهادته في شكوى من القمع والمراقبة التي يمارسها المجتمع على النوع الموسيقي الميتال، مما سيؤدي بإعتقاده إلى هجرة الكثير من الموسيقيين والفنانين إلى أماكن أخرى بحثاً عن تحقيق أحلامهم بتأسيس فرق وعزف الموسيقى التي يرغبون.
عضو من فرقة ( Anarchadia)، انتقل أيضاً إلى بيروت، وهو يشتكي من الأوضاع الأمنية في سورية، لقد أُخذ كرهينة بين القوى المتصارعة لأجل المقايضة بين طرفين مسلحين متصارعين، وكذلك الموسيقي سيام من الفرقة نفسها يروي عن الإعتقالات التي يتعرض لها العازفون ومحبو موسيقى الميتال لمجرد اختلاف مظهرهم وذائقتهم عما هو شائع وسائد. أما (Hermorgia)، فهي فرقة انتقلت بالكامل من سورية إلى بيروت، يتحدث أعضاؤها الأربعة عن صعوبة العيش في سورية في ظل الوضع الراهن، وصعوبة ممارسة النوع الموسيقي الذي يحبونه هناك.
يعرفنا الفيلم، على صعوبة تقديم هذا النوع الموسيقي بسبب معارضة المجتمع، ورقابة السلطات، والحرب، التي أجبرت العديد من الموسيقيين على الإنتقال، الهجرة، وإيقاف أعمالهم ومشاريعهم الموسيقية، مما يؤدي إلى تأخر ولادة أنواع موسيقية جديدة في المجتمعات العربية ككل.


©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024