بلاغة التدليك في قاموس يوسف القعيد

هشام أصلان

السبت 2018/01/27
الروائي المصري يوسف القعيد لا ينافس، في محبة السُلطة والرؤساء، إلا نفسه متفوقًا عليها يومًا بعد يوم، في تجلّي عظيم للعلاقة المثالية بين الحاكم والمثقف المُحب. وهو، إن كان محسوبًا على أدباء الصفوف الخلفية لجيل الستينيات، سيؤرَخ اسمه بحروف من نور كأحد قادة الصفوف الأولى لأدباء مسح الجوخ والاجتهاد في الوصول بالرؤساء لسقف الأورغازم، مُستخدمًا أكثر أدوات المسح والتدليك أثرًا.

كان الرئيس السيسي انتهى من مؤتمر عنونه بـ"حكاية وطن"، بمناسبة اقتراب نهاية فترة ولايته الأولى. راح يشرح ما يراه إنجازات، ويرتب إعلان نيته الترشح لفترة رئاسية جديدة. والمعروف أن العادة جرت بعد كل من أحاديثه على أن يذهب روّاد السوشال ميديا في تناول ما قاله بين مؤيد ومعارض، بينما تتحول بعض عباراته غير المفهومة إلى مادة للمعارضة الساخرة. وكانت من ألمع عبارات المؤتمر الأخير، أن "الحكاية ليست حكاية حكومة أو قيادة بل حكاية ناس، ناس شبعت من الجوع، وشربت من العطش". ولم يفهم أحد باستثناء يوسف القعيد.

صاحب "الحرب في بر مصر"، والحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، بادر بتفسير العبارة العجيبة. خصّص مقالته في جريدة الأهرام مؤخرًا لهذا الأمر، وعنونها بـ"قاموس السيسي". قال إن الرئيس "ختم الجزء الذي ارتجله من الكلمة بعبارات يمكن أن تشكل إضافة للبلاغة العربية. فالجوع لا يؤكل، والعطش لا يشربه إنسان، وإن شربه لن يصل إلّا إلى عذاب العطش، الجوع جوع والعطش عطش، ولكن فى قوانين البلاغة العربية وتراث الإعجاز اللغوي العربي، فإن الاستخدام اللغوي لأكل الجوع كطعام، وشرب العطش كماء الحياة، بلاغة من نوع جديد".

الروائي القعيد هو أحد الذين تم اختيارهم للتعيين نائبًا في البرلمان المصري ليكون صوت المثقفين تحت قُبة المجلس. ويبدو أن علاقته بالبلاغة اللغوية، كانت ضمن أوراق اعتماده لهذه الوظيفة، وسمة جعلت قلب الدولة يدق 3 دقات من أول نظرة. غير أنني كنت أتمنى على الكاتب المعروف أن يهبط بمستوى بلاغته إلى مستوى المثقف البسيط، وليس المواطن البسيط، ذلك أنني شعرت بجهل حقيقي مع فشلي في فهم ما يجتهد في شرحه:
"إن المعنى الذي دار في خيالي عندما استمعت إلى بيت الشعر من الرئيس السيسي كان عبارة أرددها كثيراً جداً، العبارة تقول: "لا مصر إلا مصر".

الروائي المعروف لا يكتفي بفك طلاسم ما يقوله الرئيس. هو أيضًا يعرف مصلحة المصريين، وأدرى بخصومهم. وأنت ليس عليك سوى وضع اسمه مقرونًا باسم السيسي في "غوغل"، لترى عددًا لا بأس به من روابط التصريحات:
"الدولة والمجتمع في مصر كيان واحد ومن يهاجم أحدهما يسعى إلى هدم المصريين جميعًا، وخصوم النظام السياسي الحالي يجب اعتبارهم خصومًا للشعب المصري كله".

الروائي، الذي تُعرّفه "ويكيبيديا" بأنه اهتم بالتعبير عن المحيط القروي المصري، يقول هذا بينما يشقّ بسطاء المصريين ملابسهم غضبًا من سوء المعيشة الذي حلّ، وبينما السجون مملوؤة عن آخرها بمن قالوا رأيًا مخالفًا، وبينما وسائل الإعلام لا تتسع إلا لمن هم مثله.

الفكرة الكلاسيكية تقول إن الأصل هو وجود أي مثقف طبيعي على يسار أي سلطة، ذلك أن وجوده على يمينها ودفاعه عنها يتناقض مع قوام فكرة المبدع، الطامح للأفضل من الأمر الواقع، حتى لو كان الأمر الواقع مُرضيًا بشكل أو بآخر. السلطة هي الأقوى دائمًا، وأنت بينما تأكل رؤوسنا بكلام عن طبيعة الأدب أو الفن في انحيازه للأضعف، لا يجب أن تكون منحازًا للأقوى.

أتحدث طبعًا عن المبدع وليس عن القعيد، الذي عاش سنواته في الحياة الثقافية المصرية على هامش النجوم من أصدقائه. لم تؤهله أعماله الأدبية أو كتاباته الصحافية، أبدًا، إلى المحافل أو التلقي العام. هو هناك دائمًا لأسباب لا تخصه. مسحوبًا وراء صديقه الكاتب جمال الغيطاني، أو داليًا بدلوه فيما يخص نجيب محفوظ بوصفه أحد ملاصقيه. ونحن طبعًا، لا نستطيع لومه على حدود إمكانياته، غير أن ما حدث مؤخرًا لا تكفي لتبريره قلة الموهبة ولا حتى قلة القيمة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024