المكتبة الوطنية.. فعلاً؟

رشا الأطرش

الخميس 2018/12/06
.. وصار للبنان مكتبة وطنية، أو هكذا يفترض.
افتتاح مجلجل، بخطابات رنانة وحشد من الشخصيات والفاعليات، غابت عنه أبرز وجوه أرباب الكِتاب والبحوث والثقافة اللبنانية، وتلطّخ بأداء مشين في حق المصوّرين الصحافيين الذين تم التعامل معهم بخشونة وصلافة ومُنعوا من التحرك بحرية لتغطية الحدث الوطني. لكن لا بأس، لعله خلل في توجيه الدعوات، وفي "خبرات" كُلّفت بالأمن والتنظيم والتعامل مع الصحافة التي يفتخر بها لبنان في يوم "العيد الثقافي" هذا. فما أدراه القصر الجمهوري بمثل هذه التفاصيل "الهامشية"؟ وما أدراها وزارة الثقافة؟

ما علينا، فلنكن عمليين، ولنحتفل بالنتيجة. فهذه مأساة ثقافية وتاريخية لبنانية بلغت خواتيمها أخيراً، بإنقاذ مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات والوثائق، بعدما نهشت الحرب الأهلية ما نهشت. وبعدما قوّضت "العوامل الطبيعية" في مخازن غير طبيعية، طوال أعوام، كنزاً قومياً لا يعوّض. وبعدما عانى المشروع ما عاناه في كواليس الحكومة والبرلمان، كيّ يقرّ له قانون ثم تصدر مراسيمه التطبيقية وتدور عجلة صرف الموازنات بالقطّارة. صار للمكتبة مقرّ ملائم وممكنن، وتراثي مرمَّم بشكل جميل أيضاً. استعدنا الكثير من الأرشيف والعمارة، بفضل مِنحة 25 مليون دولار من الدولة القطَرية، والتي جاءت كإنقاذ يستحق الامتنان، بعدما كان قد انتهى تعاون وتمويل أسبق مع الاتحاد الأوروبي، ما هدد المشروع برمّته بالتوقف نهائياً. أما المرحلة المقبلة، فباتت مرهونة الآن بالدولة اللبنانية وحدها، لتجعل النهاية السعيدة، حقيقةً سعيدة.

يفترض أنه صار عندنا مكتبة وطنية، وأننا موعودون بفتح أبوابها بعد أسابيع أمام المالِك الشرعي لمقتنياتها، أي الشعب اللبناني. ستناط بها إعادة طرح السؤال حول آلية إنتاج المعرفة اللبنانية، على الأقل بالاستفادة من هذا الأرشيف القيّم في حال توافر التمويل والإرادة لأفراد أو مؤسسات. وذلك بعدما تعامل الأكاديميون والمؤرخون والمثقفون اللبنانيون طويلاً، مع أمرٍ واقعٍ مُهين، يتمثل في صعوبة الوصول إلى أرشيف وطني فعلي، ولطالما حاولوا التعويض عنه بالركون إلى مكتبات المؤسسات الخاصة من مثيل أرشيفات الصحف، والمراكز البحثية غير اللبنانية، والجامعة الأميركية في بيروت.. دون الجامعة اللبنانية، بالطبع، وهي المتهالكة مبانيها أسوة بدورتها الأكاديمية.

يفترض أنه صار عندنا مكتبة وطنية، يُقال إنها لن تلاقي مصير المتحف الوطني الذي ما زال حضوره كمؤسسة ثقافية وفنية، شبحياً، في ما خلا رحلات مدرسية أو سياحية فولكلورية. ويُقال أيضاً أنها لن تكون مجرّد وعاء أصمّ للأرشيف الكتابيّ اللبناني، ولن يُلمّ بها ما ألمّ بالأرشيف البصري في "تلفزيون لبنان" من صراعات سياسية وفساد مالي وإداري وتنفيعات التوظيف.

لكن الكثير من الشك يحيط بكل من نفترض من تلك الآمال، ويكاد يحيلها إلى تفاؤل سذاج وتفكير أمنياتي.

أولاً، التعيينات لمجلس الإدارة ورئاستها والإدارة العامة. للمحسوبين على "التيار الوطني الحر" حصة قيادية مرموقة، تذكّر بتمدد الكنية العونية في مؤسسة رئاسة الجمهورية، على غرار تمدّدها الحزبي والمصاهراتي في العديد من المناصب العامة ومرافق الدولة. ناهيك عن المحاصصة السياسية والطائفية لبقية المقاعد، والتي طيّرت أسماء وازنة كان في مقدورها أن تقدّم الكثير للمكتبة الوطنية.

وفي هذه النقطة، وغيرها الكثير، لا بد من العودة إلى مقالة مهمة، نشرتها صحيفة "لوريان لوجور"، وسرعان ما طواها النسيان/التجاهل. المقالة كتبها مدير مشروع النهوض بالمكتبة (2002 – 2018)، جيرار خاتشريان، وتستحق الحفظ في المكتبة الوطنية نفسها، كوثيقة تاريخية، في مقابل سرديات المجد عبر الوكالة الوطنية للإعلام والمنصات المصفّقة لما اعتبرته أحد إنجازات العهد، في حين أنه لا شيء يربطه به سوى توقيت الافتتاح.

يسرد خاتشريان قصته الكاملة مع المشروع، والتي تكفل للجبين أن يندى. نقتطف، على سبيل المثال، لا الحصر: الأشخاص الذين تم تعيينهم لإدارة المكتبة الوطنية، وباستثناء شخص واحد، لا يملكون أي خبرة أو تدريب في مجال المكتبات أو حتى صَنعة الكتاب. وقد بيّنت دراسة استشرافية لمستقبل المكتبة، وُضعت العام 2006، أن الموازنة المتوافرة لاستعادة عناوين المرحلة ما بين العامين 1976 و2006 بالكاد تكفي لـ50 ألف كتاب. وهذه الكتب، مضافة إلى 175 ألف موجودة، تضع المكتبة الوطنية في مصاف مكتبة الحيّ. ولما طُرح اقتراح بإنشاء صندوق وطني خاص بالمكتبة، لإنشاء دائرة تطوير مجموعة المقتنيات، وضمان تحديثها الدائم بتقنيات عصرية، تجاهله معظم الوزراء الذين تولوا حقيبة الثقافة بعد العام 2006، رافضين حتى دراسته.

والحال أنه، إلى أن يؤخذ في الاعتبار إنشاء الصندوق الوطني لتمويل استمرارية المكتبة كجسم حيّ، ينمو وله وظائفه، ثم ضمان فاعلية الخدمات بحيث تحظى بمن يستعملها فعلاً، وليس فقط بمن يزورها ويتفرّج عليها، فإن افتتاح المكتبة الوطنية مرشّح للبقاء في دائرة النشاطات السياسية والاجتماعية الروتينية، وستبقى صرحاً من قبيل ما يُنشأ لتخليد ذكرى الموتى.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024