بطريرك النشر العربي

محمد حجيري

الثلاثاء 2020/09/29
من بين الأمور اللافتة في مسيرة الراحل رياض نجيب الريس، البيروتي، الدمشقي، الأموي، الفاطمي، أنه اختار تأسيس دار نشره باسمه على نحو ما فعلت الكاتبة غادة السمان ومواطنها الشاعر الدمشقي نزار قباني، والكويتية سعاد الصباح. اختار اسمه الشخصي، ولم يلجأ إلى العناوين العريضة أو البراقة أو ذات الدلالة. واختياره "الشخصي" لم يقف حجر عثرة في التمدد والتكريس و"الماركة" و"الاحتراف" والتجارة. في خلال مرحلة قصيرة، استطاع الريس الاستحواذ على أسماء كبيرة في عالم الثقافة اللبنانية والعربية، سواء من خلال تأسيس الدار أو الجوائز، أو نشر الكتب، أو المواجهة مع الفئات الدينية والرقابة (منعت كتب الليبي الصادق النيهوم، وكتب الجنس العربي). ولم تكن مواجهة الرقابة العربية سهلة، إذ منعت دار الريس لسنوات من الدخول الى السعودية، وبقيت مجلة "الناقد" شبه ممنوعة في معظم الدول العربية، وأحياناً كانت تدخل ممزقة.

الريس، وإن قال إنه "صحافي يهوى النشر"، كان في الواقع من أبرز الناشرين في بيروت، عاش مزاجه في اختيار الكتب. وإذا كان يوسف الخال بطريرك مجلة "شعر"، فالريس "بطريرك النشر"... لم تستهوه الترجمات الى العربية إلا ما ندر، في بعض الكتب، ككتاب "سلام ما بعد سلام" لديفيد فرومكين، أو السلسلة البوليسية التي لم تعمّر طويلاً...

كان الريس عاشقاً للسِّير والأسماء الجديدة في الرواية (علي بدر، رؤوف مسعد، وجدي الاهدل)، وساهمت جائزتا "الناقد" للرواية، و"يوسف الخال" للشعر، في تكريس بعض الأسماء الروائية (هدى بركات، ربيع جابر، بنسالم حميش)، والشعرية (يوسف بزي، يحيى جابر، باسم المرعبي، محمد متولي)... وتمكن رياض الريس، في سنوات قليلة، من التربّع على عرش معرض بيروت، فكان جناحه في الواجهة، وفي الطليعة، والأكثر أناقة حتى وإن كان بين كتبه الكثير من الكتب التي لا تعجبنا ولا تستهوينا، سواء في الرواية أو الشعر. حمل بعض الطقوس التي لم تكن مألوفة لدى دور النشر الأخرى، فكرّس ديزاين اللقطينة بين الكتب، وقبل ذلك كان يوظف رجلاً يرتدي زياً تراثياً (شروال ونحوه) لتقديم القهوة من الركوة العربية النحاسية، إلى جانب شعارات رافقت معرض الكتاب، مثل "القارئ العربي الديناصور الأخير"، وضد الرقابة وضد ثقافة الرعاية...

كان الريس كارهاً للايديولوجيات. ورغم صداقته مع الكاتب والمؤرخ فواز طرابلسي، وطبعه معظم أعماله، لكنه لم يطبع له كتاب "الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان". وكان يرفع شعارات الحرية، لكنه في الواقع كان حذراً من أمور كثيرة. روى الكاتب علي المقري، أنه أجّل طباعة كتاب "الخمر والنبيذ" بعد هجوم الأصوليين، ولم يطبع كتاب "الشخصية المحمدية" لمعروف الرصافي الذي وصل إليه أولاً، ثم ما لبثت أن طبعته منشورات الجمل، وبقي أشبه بالممنوع ويباع في الكواليس.

لم يكن رياض الريس يخبىء أنه يتلقى الأموال من سلطنة عُمان أو الشاعرة سعاد الصباح، وتحدث عن الانتظارات الطويلة في خيمة معمر القذافي والخروج خالي الوفاض إلا من قصص اللامعقول... كان "جنتلمان" في مكان ما، بحسب تعبير الصديق خالد المعالي، يدفع ثمناً لديوان شعر ترفض طباعته بعض دور النشر أو تطلب المال لطباعته. كل من يعرف رياض الريس يعرف أن له مزاجيه خاصة في النشر، هي جزء من ثقافته، التي تجمع بين دمشق وبيروت ولندن، بين السرد الحكائي وأخبار المجلات الفنية، بين السيرة السياسة والجنس. هي، نوعاً ما، ثقافة شعبية في إطار أنيق وأغلفة وبراقة وطباعة محترمة... كان رياض الريس قادراً على صناعة حياة للكتاب، سواء من خلال التواقيع أو توزيع الكتّاب على الصحافيين أو كتابة النقد عنه في "الناقد" و"النقاد".

في سنواته الأخيرة، انهارت المملكة الريسية، بسبب مرضه، الى جانب تقلص الأموال المحفزة على النشر، سواء المبيعات أو التمويل. فبدأ الكتّاب بالمغادرة، كأن روح الكتاب ترتبط بالتمويل و"كرم رياض الريس"، الذي ما عاد ممكناً في ظل التحولات... مع الثورة السورية ركز على ترجمات لكتب عن سوريا في خضم البعث الأسدي، ولاقت هذه الكتب رواجاً واستحساناً ولم تنجُ من حملة شعواء شنتها الممانعة الثقافية القومجية..

باختصار، كان رياض الريس شخوصاً في شخص... لديه فهم خاص للعلاقة بين سوريا ولبنان، وأيضاً لديه فهم خاص للواقع السوري. فهو، وإن عاش في لبنان وتعلم في لندن، بقي في باله وحلمه أن يعيد نشر جريدة "القبس" في دمشق.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024