خط توفيق عبدالعال

روجيه عوطة

السبت 2018/07/07
تقدم "دار النمر"، وبمعية القيم ناصر سومي، معرضاً للفنان الفلسطيني توفيق عبدالعال بعنوان "إيقاعات على زمن مختلف" (حتى 31 تموز). وعلى إثره، يطلق كتاباً عن أعماله، ويتضمن نصاً عن تجربته الخطية، مثلما مارسها في الرسم، والنحت، والشعر أيضاً. هنا، مطلعه.

ليس باع الفنان توفيق عبدالعال في الرسم باعاً في التعبير، إنه، أساساً، باع في الخط، وبالطبع، التعبير ومواضيعه يأتي لاحقاً. إذ زاول خطه في وجهات تجاورت على  اختلافها، وتشابكت على رغبة حادة ومحددة. فعبد العال، وعلى طول تدبيره لخطه، كان يتعقب محلاً، لا لذاته، بل للكثرة التي تأهله، أكانت إنسية، أو حيوانية، أو منظرية، محاولاً تهريبها إليه،اإبانتها فيه، لكي تغدو في دنياها.

لا يمكن الوقوف على ممارسة عبدالعال من دون التوقف عند ذلك المحل، الذي جهد في تشييده، ولهذا السبب بالتحديد، لا يمكن تجنب رواية خطه، التي تضمنت فصولاً عديدة، وقبلها، وقعت بوسائط مختلفة: الرسم هو حقل سردها المتين، داخله، يسيل الفنان خطه، أو يزيته، بشدة الثقل والخفة، كما أنه يمرنه حافاً على ورقٍ من قبيله. النحت، حقل التماس تجسمها، حيث يقولب الفنان انصراف خطه إلى دروئه في الفراغ. أما، الشعر، فحقل لإفلاتها من تمثيلها، التصويري وغيره، وجعل خطها مركبة لما يلتحق به في اللغة ومنها.


على أن هذه الرواية، في فصولها، ووسائطها، تظهر مقطوعة بالضوء، بمعنى أنه يعبرها من بدئها إلى عقبها، وبهذا، ولما يصطدم الضوء بخطها، ينتج معه لوناً، كما في أثنائه الزيتي، وعندما لا ينتجانه، يكون الخط في أثناء تدربه على الليونة فوق البياض، كما في أثنائه الورقي. وحين لا يصطدمان، بل يتوازيان، كما في الأثناء الشعري، ينقلب اللون إلى شيء غيره، وهو اللحن. وإذا لم يتوازيا، بل يجيء الضوء ليتبوأ إعوجاجات الخط وشقوقه في الخلاء، فيصير اللون حجماً، أي بروزاً.

لكن، كيف يروي عبدالعال خطه؟ كيف يعمر به المحل للساكنين فيه؟

ككل رواية، تدور تلك التي خاضها وظهّرها عبدالعال، حول حكاية وقصة. الأولى، عما وقع، وهو، أولياً، اقتلاع العدو الإسرائيلي للفلسطينيين من أرضهم. والثانية، عما سيقع، هو استمرار اقتلاعهم، ولو بأشكال أخرى، في البلدان التي نزلوا فيها. عبدالعال، وفي سرده الإقتلاعين، يمرر خطه بينهما، خط يستخلصه من الواقع، ومن خلاله، يكد في الإحاطة بمعاودته، وذلك، من أجل الإتاحة لكثرته أن تسلك سبيلها إلى مطرحٍ، يكون براحها، فيستحيل، بحضورها، عالماً.

بهذا المعنى، نشاط عبدالعال التمثيلي، والتذكري، والتجسيدي، لا يقوم على رغبة في الرجوع إلى أرض منزوعة، بقدر ما يستند إلى رغبة في نجاة الأحياء الذي كانوا عرضةً للتهجير منها، والإبعاد من غيرها: تحويل إنتزاعهم إلى مغادرة، وتحويل الإستقبال الذي ينفيهم إلى لقاء لهم مع أحوالهم. هذا أثر الخط، الذي، وإن كان وصفه الغالب يقرنه بالحنين، فذلك لا يلغي أنه يرمي إلى بناء محل تمكث فيه الكثرة. ثم إن الحنين هو صوت الخيط بعد لفه على غرضٍ، وأخذه باليد صوب ماسكه، الذي، وفي رسم عبدالعال، يشده إلى حدِ يصير به بلا حرف ندائه، يصير خطاً. الخط هو الخيط، وقد اشتد إلى أن طلعت عليه الكثرة، فما عاد عبدالعال يناديها شوقاً لكي تمضي إليه أو تحتضنه في مطرحها، بل، وعلى العكس تماماً، قطنت في الدنيا، البيان، والعالم، الذي صنعه لها.


في هذا المطاف، لم يكن عبدالعال يبالي بالتأريخ، والعنونة، فعدد كبير من لوحاته لم تذكر تواريخ رسمها، ولم تحمل عناوين. وهذا، ربما، يتعلق بأن زمنها ليس زمن إنجازها، ولا زمن موضوعها، بل أنه زمن الدنيا التي تنطوي عليها، أي زمن حدوثها الخطي، وهو ما لا يمكن قياسه سوى بحسب جريانه فيها. كما أن الفنان لا يكترث بعنونة لوحاته لكي لا يعين دنيا كثرته، فالمعالم التي تحتويها والتي ترجع إلى الأرض المنصرمة، تصير فيها أيقونات لصناعتها، أو رموزاً لتبديلها، وذلك قبل أن تتغير إلى محض علامات، لا تدل سوى على أن الخط قد أنتجها وجمعها وفرقها بحركته.

من الممكن القول أن دنيا عبدالعال كانت تنحو إلى ألا تكون معنونة لأنها هي العنوان بنفسه، الذي لا اسم له، إذ تتم بين اسمين، اسم فنانها، واسم بلاده. بحيث أن الأول يريد إبدائها وإيبائها من الثانية، لكن من دون أن يسميها، تاركاً إياها نكرة، وعندها تتقي نفي الإقتلاع ونفي الإستضافة. وعندها أيضاً، تنبه في رواحها على الخط لتتسع لكل الدنّى، ولا تبلغ نهاية. فدنيا بلا عنوان هي دنيا رحبة وبلا آخرة، هي دنيا موجودة في الحال، وفي كل محل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024