ذكرى 13 نيسان: صورة أسطوريّة في أيام القتل العادي

محمد حجيري

الجمعة 2019/04/12
يُحكى أنه في الحروب القديمة والغابرة، كانت القبائل التي تريد الاستسلام في الحرب ترفع رايتها البيضاء، حتى انتقل هذا التقليد إلى الزواج. فيتقدم العريس إلى أهل العروس، فإذا وافقوا عليه، ارتدت الفتاة فستاناً أبيض كرمز لقبولها وموافقتها وأهلها بشروط الزواج وإتمامه، ليتم برضا جميع الأطراف. والأبيض هو لون النقاء و"الطهارة"، ويرمز في علم النفس الى الهدوء والحب والبراءة والاستسلام بمعنى الموافقة...


لكن لا ندري ماذا كان في خُلد العريس والعروس اللبنانيَين، اللذين صورهما جورج سمرجيان عند خطوط التماس في بيروت العام 1983، وقد أصبحت صورتهما أيقونة أيقونات صور الحرب اللبنانية. واكتملت الأسطورة لأن العروسين من طائفتين مختلفتين، فالعريس مسلم من آل جمعة، والعروس مسيحية من آل اسطفان، أعلنا زواجهما المختلط دينياً، في زمن البيروتَين الشرقية والغربية، والذبح على الهوية والدسكرة. وصورة عروسَين كهذين، قد تكون في عرفنا اليوم مجرد كليشيه روائي، أو كليشيه مسلسل تلفزيوني ركيك أو فيلم سينمائي مفتعل أو مسرحية رديئة، لكنهما في زمانهما امتلكا وقعاً خاصاً وعادياً في آن واحد. وقع لا يحمل افتعال الروائيين وسردياتهم المملة. فهما، بحسب تخميننا، تحدّيا سواد الحرب بنقاء ثوب الزفاف الأبيض وبزة العريس البيضاء، وطبّقا، بلا تكلف أو حركات شبابية أوروبية، مقولة "مارسوا الحب لا الحرب" أو "الحب في مواجهة الحرب". بل قالا، بالزواج، على الأقل بالصورة التي التُقطت لهما، إن الحياة تستمر ولا يمكن أن تُوقفها "أعراس دم"(الجنازات وصناعة الموت) التي سوقتها الأحزاب الايديولوجية، اليسارية والإسلامية واليمينية والعروبية...

وصورة الزفاف في تلك المرحلة، وإن اتخذت بُعداً ميديائياً صاخباً، فهي تذكير بأشياء الحياة العادية، التي ينبغي استئنافها بلا تردد، أو عيشها بشكل يومي هادئ. فالزواج وصُوره من الأمور العادية والعابرة، واللاعادي هو الحرب التي تطبق على حياتنا وطرق عيشنا وموتنا ومسار تنقلاتنا ونسيجنا الاجتماعي. بالمختصر، ليست صورة دمرجيان أسطورية، لكنها أصبحت أسطورية بسبب تحول القتل اليوم إلى شأن عادي، صُنع بأيدي جماعات من اللبنانيين، شيوعية وتقدمية وكتائبية وأمَلية واشتراكية وناصرية وأحرارية وفلسطينية، تزعم أنها تحمل الفكر الخلاصي والمهدوي وتتعاون مع الأغيار في فتح باب جهنم على الحياة العادية... إلى درجة أن صورةً لحياتنا العادية، أصبحت أسطورة ميديائية نندهش لمشهديتها، كأنها مَركَب نجاتنا.

في الجانب التقني، لا ندري فعلاً إن كانت الصورة قد التُقطت بالصدفة أو بالتعاون مع المصور سمرجيان. زوايا التصوير وحركة العريس والعروس البعيدة، وسط شارع بات خرابة وبين مبانٍ مهشمة، تقول إن الصورة ليست صورة عرس بالمعنى التقليدي لصور الأعراس، وهي التقطت على غفلة بلا افتعال أو استعراض، وليس الهدف من منها جعل الخراب ديكوراً جمالياً أو أبوكاليبسياً. لم يكن "زوم" الكاميرا قريباً من وجهَي صاحبيّ الصورة، فالغاية هي صورة العرس وسط الخراب والدمار وتيه الحياة، أكثر من هوية صاحبَي الصورة التي عرفت لاحقاً في مرحلة السِّلم والبحث عن الذاكرة. إضافة الى كل ذلك، ويا لجحيم الحرب، قُتل سمرجيان، مصوّر الصورة، برصاص قناص في شباط 1990 أثناء تغطيته الاشتباكات الدائرة في ما سُمّي آنذاك "حرب الإلغاء" العونية - القواتية، في منطقة انطلياس بالقرب من بطريركية الأرمن...


قد تكون مفارقة هذا العام، أن بعض النشاطات اللبنانية التي تستذكر 13 نيسان 1975، أو الذكرى الـ44 لاشتعال الحرب اللبنانية، قد اختارت صور أعراس التُقطت في أماكن الخراب والدمار وخطوط التماس بين العامين 1975 و1990، لتكون ملصقات لمعارض فوتوغرافية وفيديوهات حلقات تلفزيونية، سواء من قبل نقابة المصورين اللبنانيين في "بيت بيروت"، والتي اختارت صورة سمرجيان ملصقاً فايسبوكياً(1) أو معرض "ذاكرة الصورة" في "دار النمر" التي نشرت في حسابها الفايسبوكي صورة للمصور جوزف براك(2)، وفيها يظهر الأرمني - اللبناني أغوب، مع أنجيلا أفتيسيان من يريفان-الاتحاد السوفياتي(الآفل)، وهما في حفلة زفافهما أمام منزلهما في بيروت الشرقية في 17أيلول1989، أثناء الحروب العونية. وفيها، تأتي الدشمة، حيث التقطت الصورة، كديكور إكزوتيكي، في شيء من "جمالية الخراب" إذا جاز التعبير.



أما الإعلامي زافين قيومجيان، في برنامج "بلا طول سيرة"(3) على شاشة "المستقبل"، فقد نشر صوراً في حسابه في "تويتر" طالباً ممن يعرف شيئاً عن أصحابها مراسلته، ومنها صورة سمرجيان التي يريد معرفة أين أصبح اصحابها، وسط معلومات تقول إنهما في كندا. أما الصورة الثانية الدائرة في الفلك عينه، فتعود الى عروس (تنحدر من منطقة الأشرفية) لاقت عريسها عند معبر المتحف- البربير (بيروت الغربية) في حزيران1989 (وقد اعتاد زافين البحث عن صور الحرب وحكايات اصحابها، وأين أصبحوا؟ وسبق أن أصدر كتاباً معبّراً في هذا المجال بعنوان "لبنان فلبنان"، وفيه صور أشخاص في الحرب مرفقة بصور للأشخاص أنفسهم في أيام السِّلم).

وفي فايسبوك والمواقع الإلكترونية، أيضاً، بعض صور الأعراس في الحرب والتي تُظهر بُعداً سينمائياً في التصوير: بياض ثوب العرس، والسيارة القديمة العابقة بالنوستالجيا، والسماء الكئيبة السوداء التي توحي بأن المدينة تحترق ولم يبق غير رمادها ودخانها المنبعث في خلفية تعطي جمالية للصورة. هي باختصار ثنائية الموت والحياة معاً، أو الحياة والثياب البيضاء في مواجهة الموت والخراب والسواد. ولا يقتصر المشهد على الحرب الأهلية اللبنانية، بل تمتد إلى حروب أخرى مرّت بلبنان بين العامين 1996 و2006، والحروب الإقليمية السورية تحديداً، إلى جانب صور انكليزية تعود الى الحرب العالمية الثانية.
                       

(1) "عبرة وذكرى" في بيت بيروت 13 نيسان.

(2) "من ذاكرة للذاكرة"، 18 نيسان 2019 في دار النمر، كليمنصو.

(3) زافين، الجمعة مساء، على شاشة "تلفزيون المستقبل". 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024