الفن في زمن "التطهير".

محمود الزيباوي

السبت 2017/07/29
في 23 تموز-يوليو 1952، قامت مجموعة من ضباط الجيش المصري بانقلاب عسكري أبيض ضد الحكم الملكي، ونجحت بسرعة في السيطرة على المرافق الحيوية في البلاد. عُرف هذا الانقلاب باسم "الحركة المباركة"، وتزعّمه اللواء محمد نجيب الذي أضحى أول رئيس لجمهورية مصر بعد إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية في مطلع عام 1953. قبل أن يتحوّل اسمها رسميا إلى "ثورة"، جذبت "الحركة المباركة" اثر انطلاقها أهل افن الذين سارعوا إلى الالتفاف حول زعيمها وإعلان الولاء له بحماسة بالغة.


أرغمت "الحركة المباركة" الملك الفاروق على التنازل عن العرش في 26 تموز-يوليو، وبعد أيام معدودة، بدأت الصحافة بنشر القصائد التي تتغنّى بالزعيم الجديد. تحت عنوان "تحية الشعر للقائد العظيم"، نشرت مجلة "الكواكب" في الأسبوع الأول من آب-أغسطس أربعة قصائد، أولها قصيدة من نظم محمود حسن اسماعيل، الشاعر الذي غنى عبد الوهاب وأم كلثوم من نظمه بعد بضع سنوات "النهر الخالد" و"دعاء الشرق" و"بغداد يا قلعة الأسود". حملت القصيدة الثانية توقيع العوضي الوكيل، وعنوانها "مطهّر مصر"، وخاتمتها: "نجيب تفديك منا القلوب/ ولا زلت في أفق مصر القمر". القصيدة الثالثة من تأليف محمود السيد شعبان، وتقول: "أيها القائد هيّا للعلا/ أنت رمز النصر والعهد الجديد. تبقى القصيدة الرابعة، وهي لشاعر منسي يُدعى أخمد الغزالي، وتتغنّى كذلك بـ"النجيب"، فتى مصر الذي حطّم قيدها، وصاح: "لغير الله لا تنحني الجباها".

إلى جانب هذه التحية الشعرية، خصّصت "الكواكب" صفحة للفن الذي "يتحرّر أيضا"، ورصدت مجموعة من الأعمال التي تعرّضت في الماضي للبتر أو للمنع بسبب تعرّضها "للطبقات الكبيرة"، منها فيلم "لاشين" الذي يعود إلى عام 1938 ويحكي عن جندي يتصدّى لحاكم طاغية مستبدّ، وفيلم "ليلى بنت الصحراء" الذي صُوّر قبله بعام، وموضوعه يدور حول كسرى ملك الفرس، وفيلم "من فات قديمه" الذي أُنتج في سنة 1942، وتدور قصته حول باشا تركي مستبدّ، والفيلم الأميركي "ماري انطوانيت" الذي سُحب من صالات العرض بعد أربعة أيام على اثر اتهام القصر الملكي للوزارة القائمة آنذاك بالموافقة على عرضه لإثارة الشعب ضدّه. وقد تذرّع القصر بهذه الحجة لمنع مسرحية "مضحك الملك" التي تتحدّث عن فرنسوا الأول، وعادت وسمحت بها بعد أن تحوّل بطلها إلى دوق، كما منعت مسرحية "لويس الثالث عشر"، واعترضت على مسرحية "شجرة الدر"، وحاولت ايقاف مسرحية "الخيانة العظمى" التي تعالج قضية الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين، ونجحت في تعديل بعض مشاهد مسرحية "مسمار جحا".

في هذه الفترة المبكرة، سبقت أم كلثوم سائر النجوم في تقديم ولائها للعهد الجديد، ونشرت المجلة صورة لها مع خبر بعنوان "تطهير"، ونصّه: "توجهت الآنسة أم كلثوم في الأسبوع الماضي إلى محطة الإذاعة لتشرف بنفسها على تنقية بعض الأغاني من فقرات خاصة بالعهد الماضي، ولانتزاع هذه الفقرات من التسجيلات حتى يمكن إذاعتها نقيّة خالصة ليسمعها شعب حرّ كريم. وقد تناولت التغييرات عدة تسجيلات، أُلغى بعضها، وحُذف الكثير من البعض الآخر. وتمثّل الصورة الآنسة أم كلثوم وهي تستمع إلى أغانيها بعد حذف بعض الفقرات منها". بعد كوكب الشرق، تسابقت نجمات السينما المصرية إلى تأييد حركة الجيش وتهنئة "المصري الأول" الذي قادها، وكان على رأسهنّ تحية كاريوكا، مريم فخر الدين، رجاء عبده، هدى سلطان، ماجدة، وشادية.

انضم كبار المخرجين إلى هذه الجوقة، فدعا المنتج والمخرج المصري حسن رمزي إلى "معالجة المسائل الوطنية والاجتماعية"، وأعلن الممثل والمنتج حسين صدقي بأن سياسته وأهدافه الفنية منذ أن بدأ عمله في السينما تتّفق مع سياسة وأهداف العهد الجديد، وقال المخرج صلاح أبو سيف: "كان شعار الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر الباسل هو التطهير، لهذا يجب أن تكون السينما المصرية في خدمة التطهير"، وتمنى المنتج جبرائيل نحاس "ان يكون العهد الجديد نصيرا للسينما المصرية فيساعدها على أن تتحرر من قيود الماضي، ومن الدائرة الفنية المحدودة التي وضعوها فيها". في المقابل، رفعت الصحافة "القائد العام منقذ مصر" إلى مصاف الفنانين، وأكّدت أنه "فنان موهوب" ألف في صباه رواية اختار لها اسم "بشير أفندي" ومثلها في داره في السودان، وتحدثت عن مطالعاته للكتب وولهه بالقصص المتعلقة بالتاريخ المصري، "وهي قصص حافلة بالبطولة والمجد الذي يتصل بجيش مصر الباسل"، وأكّدت بأنه "ينظر إلى السينما نظرته المدرسة الحديثة التي تأخذ بيد الشباب إلى طريق الفضائل والخلق القويم".

سار الفن في هذا الموكب منذ مطلع شهر سبتمبر-أيلول، و"اتفق بعض السينمائيين على القيام بحركة تطهير تشمل جميع نواحي صناعة السينما ونقل نقابة السينمائيين من نقابة عمالية إلى نقابة مهنية". كذلك شرع ناظمو الأغاني "يحيون البعث الجديد ويودعون عهد الظلمات بالصرخات واللعنات التي كانت مكبوتة في أعماق البركان"، وبدأت الإذاعة ببث الأغاني التي تمجّد "هذا الحدث الخالد"، ومنها أغنية من كلمات عبد الفتاح مصطفى أدّاها محمد عبد المطلب، مطلعها: "نوّر يا صبح جديد/ كفاية عهد ظلام". طالت هذه الحملة عالم المسرح، و"قرر مجلس الوزراء وقف المفاوضات التي كانت دائرة بين إدارة الأوبرا الملكية وبين الفرق الأجنبية، والغاء ما تم منها تمشيا مع سياسة العهد الجديد"، وجاء هذا القرار لـ"يردّ دار الأوبرا الملكية للشعب، ويفسح المجال فيها للفرق المصرية التي تعمل لخدمته". هكذا تحوّل "تطهير الفن" إلى شعار يرفعه الجميع، وبات لكل فنان دعوة خاصة في هذا الميدان الجديد، كما يتضح عند مراجعة الصحافة التي تعود إلى هذه المرحلة الانتقالية من تاريخ مصر الحديث.

بحسب أخبار هذه الحقبة، تلقّّى محمد عبد الوهاب رسالة من أحد المعجبين كُتب على مظروفها "إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء"، فما كان منه إلا ان كتب على الظرف: "لا يُعرف شخص بهاذ اللقب في هذا العنوان"، ثم أعاد الرسالة إلى صندوق البريد. بعدها، في تشرين الأول-أكتوبر، كتب رئيس حزب العمال عبد الحميد عبد الحق مقالة شرح فيها لماذا ضمّ عبد الوهاب إلى حزبه، وقال عبد الوهاب بهذه المناسبة: "لم الدهشة؟ انني من مؤسسي حزب العمال، ومواقفي وقلبي وموسيقاي كلها مكرّسة لخدمة العمال". في الواقع، تشهد الصحافة لدخول عبد الوهاب هذا الحزب في السنة التي سبقت قيام "الحركة المباركة"، كما أنه غنّى في هذه الفترة من نظم كامل الشناوي "نشيد التحرير" الذي حجبته السلطة الملكية، وتبنّته من بعدها "الحركة المباركة"، وساهم هذا التبنّي في دخول عبد الوهاب زمن العهد الجديد من الباب الواسع، على عكس ما حدث مع أم كلثوم التي ظلت لفترة سجينة "العهد البائد"، كما تظهر بعض المقالات التي سخرت منها بشكل سفيه خلال هذه الفترة.

رافقت السينما هذا التحوّل، وأبدى أكثر من منتج رغبته في تصوير فيلم يتناول مسألة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين. في شهر تشرين الأول-اكتوبر، توجه عدد من نجوم الشاشة الكبيرة الى "ستديو نحاس" للمشاركة في "فيلم قصير يحيون فيه البطل محمد نجيب"، وكان على رأسهم فاتن حمامة ومحسن سرحان وسميرة أحمد ومحمد توفيق". جمع هذا الفيلم عدد من الجنود الذين أصيبوا في حرب فلسطين، ونقل شهاداتهم بحضور النجوم الذين حضروا للاستماع إلى قصصهم، وذلك لمساندة "جمعية رعاية مشوهي الحرب"، ودعمها في مهمتها النبيلة التي تهدف إليها كما قيل يومها.

تابعت الإذاعة هذه المسيرة الشائكة بعد أن أضحى محمد نجيب "المذيع الأول" فيها، وتعرّضت لصعاب جمة، وظلت تعمل دون مدير مسؤول إلى أن عيّن الأميرالاي محمد كامل الرحماني في منتصف كانون الأول-ديسمبر، قبل إعلان ولادة الجمهورية. أمر المدير الجديد بتكوين لجان تجمع لفيفا من رجال الأدب والفن، وتحدّث إلى الصحافة بحضور عبد الوهاب الذي شارك في الحديث، ودافع بشدة عن الأغاني العاطفية، وأضاف: "ان من أسس ارتفاع الفن ابساط الفنان، ويؤسفني ان الإذاعة تتعسّف معهم وتهضم حقوقهم"، فردّ المدير عليه وطمأنه بقوله: "لن يكون هناك تعسّف بعد اليوم ولن يُهضم حق بعد هذه الساعة".

في الخلاصة، التحق اهل الفن بـ"حركة التطهير" قبل أن تتخذ السلطة الجديدة قرار حل الأحزاب والغاء دستور 1923 والالتزام بفترة انتقال محددة في ثلاث سنوات يقوم بعدها نظام جمهوري جديد. وساروا في هذا الطريق بعد اعلان الجمهورية، ورفعوا شعار "هيئة التحرير" الداعي إلى "الاتحاد والنظام والعمل"، وسخّروا كل طاقاتهم لخدمة هذا الشعار.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024