أسامة العيسة... عن روبرت كينيدي "مُتظارفاً" في القدس(*)

المدن - ثقافة

السبت 2020/05/16
(*) تظارف روبرت كينيدي، الصحافي الشاب، مبعوث صحيفة "بوسطن بوست" إلى الأراضي المقدسة، واتخذ أمام فندق الملك داود في القدس، وضعية الاستعداد، بكامل زِيه الرسمي، ورسم بيديه، ضاحكًا، شكل مقلاع يُطلق، مستحضرًا، واقعة قتل الصبي داود اليهودي لجوليات الفلسطيني العملاق، الكتابية، بحجر. والرمز يعبر عن ثقته في قدرة العصابات الصهيونية قليلة العدد بهزيمة الجيوش العربية كثيرة العدد، لم يعش ليعلم بأن العصابات الصهيونية في الواقع لم يكن عديدها أقل من عديد جيوش العرب، وإن كانت بزتهم في أمورٍ أخرى كثيرة، حققت لها النصر. أو أن الجيوش غير الجرارة، لم تدخل فلسطين، كما أيقن والدي ورصفاؤه، إلّا لتسليمها للمستوطنين اليهود.

بدا روبرت، متساهلاً مع منفذي تفجير الفندق في وقت سابق، وكتب لصحيفته، بأنّه تحدث مع أعضاء منظمة أرغون السرية، المسؤولين: "عن كارثة فندق الملك داود وأخبروني، بفخر أنهم مسؤولون عن تفجير قطار القاهرة حيفا الذي وقع للتو مع فقدان 50 جنديًا بريطانيًا".

خلال شهور الغليان، التي سبقت إعلان دولة إسرائيل، على الجزء الأكبر من فلسطين الانتدابية، وِجد في الأرض المقدسة شخصيات عديدة، بعضها لم يحظ بشهرة وجوده مثل روبرت كندي، الذي سَيُعرف كشخصية سياسية أميركية شهيرة، لكن سترافقه لعنات الأرض المقدسة، فالظلم عدوى، تنتقل، وتسكن تحت الأرض، تزلزلها، وتنفث فيها الأوبئة، والإرهاب، والاغتيالات، والثورات.

وصل روبرت فلسطين في آذار 1948، ليغطي النيران المشتعلة فيها. وأبدى إعجابه بالنهضة اليهودية في فلسطين، التي جعلت كما نقل عن مصادر يهودية، نحو 500 ألف عربي في السنوات الـ12 بين 1932 و1944، يأتون إلى فلسطين للاستفادة من الظروف المعيشية غير الموجودة في أي دولة عربية أخرى. لأنّها هي الدولة الوحيدة في الشرق الأدنى والأوسط التي توجد فيها طبقة وسطى عربية-من الواضح أن كندي الصغير، يتدرب على البروباغندا.

وشكّك في ما قاله له مَن وصفهم بـ"عرب بارزين" في اللجنة العليا، عن التعذيب البريطاني، ومن بينها التعذيب بالنار، من دون ترك أي ندبة، وقلع الأظافر، وإشغال أعواد الثقاب تحت الأظافر.

تمتلئ الرسائل الأربع التي أرسلها روبرت لصحيفته بشكوى اليهود من البريطانيين، ما يذكّر بالشكاوى العربية الفلسطينية، بل أنّه يلاحظ، بأنَّ العرب واليهود يكرهون البريطانيين، أكثر من كرههما لبعضهما.

مما كتبه روبرت:

* شكوى اليهود من أن البريطانيين، لم يساعدوهم ماليًا في بناء المدارس والمستشفيات في مستوطناتهم، ومن إنشاء مكتب بريد متواضع في تل أبيب. حتّى أن الشخص ينتظر في الطابور أكثر من ساعة لشراء الطوابع.

* قال البريطانيون، لليهود، إنّهم إذا أرادوا ميناءً، فسيتعين عليهم بناؤه بأنفسهم، فبنوا ميناء تل أبيب برأسمال وعمالة يهودية. فرض عليه البريطانيون ضريبة لصالح ميناء يافا العربي، الذي بُني ويصان بأموال الضرائب العربية واليهودية.

* خيبة اليهود من العالم، وإنهم على قناعة بأنهم إذا أرادوا دولة مستقلة، فعليهم أن يقاتلوا من أجلها، وقبل ذلك التخلص من القوات الأجنبية، ويعتقدون بأنه لولا أنشطتهم الإرهابية، لظلَّ البريطانيون في البلاد. 

* خروج البريطانيين المبكر من فلسطين، أكثر أهمية من الناحية الإستراتيجية لليهود منه للعرب.

* اليهود الأرثوذكس في حارة اليهود ببلدة القدس القديمة، أرادوا النأي بأنفسهم عن أي من الطرفين، لكنَّ العرب أرادوا إبادتهم، فنقلت الهاغانا مئات الرجال المجهزين تجهيزًا جيدًا إلى الحارة-أعتقد أن حكاية حارة اليهود لم تكتب بعد.

* جرّد البريطانيون مجموعة من القناصة اليهود على طريق يافا-القدس، من أسلحتهم، وما كاد البريطانيون يغادرون، حتّى وصلت مجموعة عربية مسلحة، وقتلت وأصابت جميع القناصة اليهود. الحكومة البريطانية اعتذرت.

* ينقل عن العرب توصيفهم لما يحدث بأنهم إزاء حرب صليبية دينية، وينقل عن عربي: "سنحضر ألوية مسلمة من باكستان، سنقود حملة دينية لجميع أتباع محمد المخلصين، وسنسحق الغزاة نهائيًا. سواء استغرق الأمر ثلاثة أشهر، أو ثلاث سنوات، أو 30، فسوف نواصل القتال. ستكون فلسطين عربية. لن نقبل أي حل وسط"-لم يصل العون الباكستاني، إلَّا في جائحة كورونا الحالية، مع وصول المصاب الغزي..!

* "يزداد العنف والكراهية بين اليهود والعرب يوميًا. لكن في كثير من الحالات يعمل اليهود والعرب جنبًا إلى جنب في الحقول وبساتين البرتقال خارج تل أبيب. ربما هؤلاء اليهود والعرب يساهمون في السلام المستقبلي في فلسطين أكبر من أولئك الذين يحملون السلاح من كلا الجانبين".

* يعتقد العرب أنَّ النصر يجب أن يكون لهم في النهاية، فقيام دولة يهودية يناقض القانون والطبيعة، وإذا أقيمت فستكون محاصرة بالدول المعادية، التي ستواصل القتال عسكريًا واقتصاديًا حتى يتحقق النصر.

* من ناحية أخرى، يعتقد اليهود أن قيام دولة يهودية، ستكون عامل الاستقرار الوحيد المتبقي في الشرق الأدنى والأوسط. لأنَّ في العالم العربي العديد من الفصائل الساخطة التي كانت ستتقاتل، لولا الحرب المشتركة ضد الصهيونية.

* لا يعتقد أن دول العالم المحبة للحرية يمكن أن تقف بجانبها وترى: "مياه نهر الأردن الحلوة ملطخة بدماء اليهود والعرب". داعيًا الولايات المتحدة من خلال الأمم المتحدة لأخذ زمام المبادرة لإحلال السلام في الأرض المقدسة.

بعد تأسيس دولة الاحتلال كتب:

* "أصبح الشعب اليهودي في فلسطين الذي يؤمن بهذه الدولة الوطنية، شعبًا فخورًا. إنه مثال حديث عظيم على ولادة دولة ذات المكونات الأساسية للكرامة واحترام الذات".

* يشيد بقوات الأمن والهاغانا، فبعدما هبط في مطار اللد، أخذوه للاستجواب، وعندما خرج من فندقه للتنزه، ولم تمض عشرة دقائق، في أحد شوارع تل أبيب، التي تسكنها 200.000 نسمة، التقطَ من قبل الهاغانا، وخفر معصوب العينين لاستجوابه.

عندما كان روبرت، في القدس، وِجد فيها طفلاً عمره أربع سنوات اسمه سرحان بشارة سرحان، سيصبح وعائلته لاحقًا ضحية النيران المشتعلة في الأرض المقدسة، وسيقضي شقيق له في الأحداث.

وعندما كان روبرت، يبني مستقبله السياسي في بلاده، وأنهى خطابًا بروباغنديًا، في فندق الامباسدور في لوس أنجلوس، كاليفورنيا، يوم 5 حزيران 1968، بعد 20 عامًا من كتابته رسائله الصحافية من فلسطين، كان أيضًا في ردهة الفندق، شاب عمره 24 عامًا ينتظر، فأطلق 8 رصاصات على روبرت، الذي أصيب في دماغه، وفارق الحياة في اليوم التالي.

أعلن سرحان، بأنّه قتل روبرت، لمساندته دولة إسرائيل، التي اغتصبت حق شعبه، وتزويدها بالطائرات المقاتلة، لكن كثيرين لم يصدقوا الأمر، ولجأوا إلى نظرية المؤامرة، كالحال في الاغتيالات الكبرى. من قتل رابين، وجون كندي، والسادات، وبوضياف، وياسر عرفات، وغيرهم؟ 

مِن الذين صدقوا المؤامرة، والدي ورصفاؤه المنكوبين، الذين تابعوا محاكمة سرحان عبر "راديو لندن" الموثوق بالنسبة لهم أكثر من إذاعات الدول العربية الخائنة. 

لم تدفن نظرية المؤامرة، في العام 2018، قال روبرت كينيدي الابن، لـ"واشنطن بوست"، أنه قابل سرحان في سجنه في كاليفورنيا، وبعد محادثة مطولة نسبيًا مع سرحان، يعتقد أن الفلسطينيّ لم يقتل والده وأن مسلحًا آخر كان متورطًا.

لكن هذا لم يزعزع رأي عدد من المؤرخين والسياسيين، بأن عملية اغتيال روبرت، هي في الواقع، أوَّل حادثة عنف سياسي كبرى في أميركا، بسبب الصراع العربي- الإسرائيلي في الشرق الأوسط.

تشبّع سرحان، وفق تربيته المسيحية بحكاية داود الصغيرـ عازف الغيتار، الذي يقتل الجبار الضخم، بحجر. الحجر يقتل، كما في يعبد اليوم، كان الأمر في فلسطين القديمة أيضًا، سلاح المفجوعين. ستنقلب الأدوار، سرحان يصبح داود، وروبرت جالوتًا. هل تراءت للأخير وهو يهوى على الأرض بفعل الرصاصات القاتلة، صورته أمام فندق الملك داود، وهو يأخذ هيئة ضارب المقلاع؟

(*) مدونة نشرها الكاتب الفلسطيني أسامة العيسة في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024