ليلى بو زيد... الحب والرغبة واللغة بينهما

روجيه عوطة

الإثنين 2021/09/13
لا مبالغة في القول إن الفيلم الذي وضعته المخرجة ليلى بو زيد بعنوان "حكاية حب ورغبة" هو شريط رائع. ومَردّ وصفه هذا، لا يتعلق بإخراجه البصري، ولا بموسيقاه، ولا بأداء الممثلين فيه. صحيح أن كل مقالبه هذه هي جزء من روعته، إلا أن ثمة ما يتجاوزها، ويجعل مما حققته بو زيد ما يشبه التحفة الفنية: السيناريو، وتحديداً، مباغته المشاهدين بكونه يقفز فوق كليشيهات كان من الممكن أن يقع فيها بكل سهولة.

لا بدّ من اختصار القصة الرئيسة في هذا السيناريو قليلاً: فرح (زبيدة بلحاج عمرو)، فتاة تونسية، تأتي الى باريس، لدراسة الأدب في السوربون، تلتقي بأحمد (سامي أوتالبالي)، وهو فرنسي من أصل جزائري، يعيش مع أهله في أحدى الضواحي. يقعان في الحب، وأول ما يُطرح هو سؤال حول الحب والرغبة والجنس واللغة العربية، التي تتمكن منها فرح، أما أحمد فلا. هذه القصة، كان من السهل أن يكون سردها مملاً، سطحياً، وممجوجاً، لكنه ليس كذلك.

أول كليشيه قفزت بو زيد فوقه، هو ذاك الحاضر باستمرار في السينما الفرنكوعربية، اي الكليشيه الاجتماعي. فكان من المتاح ان تدور تلك القصة حول فتاة تأتي من العالم العربي إلى باريس أو أي مدينة أوروبية سواها، بالتالي، ليقوم سرد رحلتها على المقارنة بين عيشها في بلدها الأول وعيشها في فرنسا: تخلصها من عادات وتقاليد قديمة، أو اصطدامها بما يمكن أن نسميه عادات وتقاليد حديثة إلخ. أما، بحسب دوراناها في فيلم بو زيد، ففرح ليست كذلك، على العكس، هي بطلة مصيرها، بمعنى أنها ليست مأخوذة بأي من تلك العادات والتقاليد على اختلافها، بل ان ما تبغيه هو اكتشاف هذا المكان الجديد، الذي جاءت إليه، أي باريس ذاتها.

أما، مقابلها، أو بالأحرى حيالها، فأحمد، الفتى الذي يعيش في هذا المكان، هو الذي يفرض عليه مجتمعه الصغير، بما هم صحبه، قواعده. وهنا أيضاً، تقفز بو زيد فوق الكليشيه مرة أخرى، لأن تقديم ذلك المجتمع، باعتباره يشكل قسماً من الضاحية، قد يؤدي الى تنميطها المباشر: ضواحيون من أصل عربي، مسلمون، منغلقون إلخ. الا أن بو زيد، ومن دون تكلف، تبدي أن مجتمع أحمد الصغير، وحين يفرض قواعده المتزمتة عليه، فهذه القواعد، وأمام حركة الضاحية نفسها، لا تصمد، لا تجد مكاناً لها. فأحمد إياه، وفي حين أنه يظهر، وبسبب صداقته مع مقتنعين بها، على أخذ خفيف بها، لا يتأخر عن رميها خلفه، وهو يفعل ذلك ببطولة أيضاً. في النتيجة، الكليشيهاتية لا تقطع الطريق أمام فرح، ولا أمام أحمد، بل إن بو زيد تنقل بطليها الى إشكالية أخرى.

هذه الإشكالية هي إشكالية، طرحها الحب، وقوعه بين البطلين، لكنها لا تتعلق به. فالحب واضح بينهما، وقد بدأ منذ النظرة الأولى نوعاً ما، لكن ثمة ما لا يقع بينهما، وهو العلاقة الجنسية. فأحمد خجول، وفرح تدرك ذلك، وهي تعينه على تخطي خجله اتجاهها، بحيث توفر له الوقت، وكل الوقت، من أجل أن يستقر لقاء بين جسديهما. بالتوازي مع كون تلك العلاقة غير يسيرة بينهما، يحضر الشعر العربي في دروس الأدب المقارن.

تركز بو زيد على جانب معين من هذا الشعر، وهو ما يعرف بالعذري أو البدوي: بُعد الشاعر أو الشاعرة عن حبيبته أو عن حبيبها هو ظرف نظمه القصائد بها أو به، وهذا النظم هو نظم للرغبة فيها أو فيه أيضاً، أو انه حفاظ على هذه الرغبة. فالبُعد، بوصفه مسافة بين الاثنين تحفظ الرغبة، التي، وفي الوقت نفسه، تحمل الى اللغة، الى خوضها شعراً. في هذا السياق، المسافة التي فتحها الحب بين أحمد وفرح هي، وكما في الحب العذري أو البدوي، مسافة للرغبة بينهما. فعلياً، استطاعت بو زيد أن تبني هذه المسافة بين بطليها، بنوع من التمهل، الذي يبدو أن الاثنين يكترثان للرغبة التي قد تنتظم فيها، وليس فقط للعلاقة الجنسية بذاتها. بطريقة أخرى، الرغبة، في هذه الناحية، وإن بدت جنسية، فهي ليست كذلك فقط، أي أنها ليست رغبة في المضاجعة، بل إن المضاجعة هي مآل من مآلاتها. إنها رغبة على كل الصعد بين البطلين، بحيث أنها تسكن حبهما، وتجعله حياً للغاية.


بذلك التمهل، بنت بو زيد مسافة الرغبة بين فرح وأحمد، ولهذا، هي اتكأت على موقع اللغة فيها. فأحمد، ومع حبه لفرح، يواجه صلته باللغة العربية. إذ إنها لغة والديه اللذين لم ينقلاها إليه. على هذا الأساس، هو، وعندما تستفهم منه فرح عن معرفته بهذه اللغة، ويجيبها بكونه لا يتكلمها، يبدو أنه على مسافة من حبيبته. بينه وبينها، لغة غائبة، لغة من طرف واحد، من طرف فرح، أما من ناحيته، فلا بد له أن يخوضها لكي يخوض الرغبة في اتجاهها. بالتالي، إشكالية الرغبة بينهما، التي تتجسد في تعسر علاقتهما الجنسية، ترتبط بإشكالية اللغة: غياب العربية بينهما يحفر المسافة التي تفصلهما، وهذه المسافة، ولكي يجتازها البطل فيذهب صوب البطلة، لا بد له أن يتعرف على العربية نفسها. كل هذا، تقدمه بو زيد بمشهد-عقدة، أختزله لكي لا أطيح تشويق من له سبيل الى مشاهدة الفيلم: يحل عراك بين فرح وأحمد، مرده أن البطل لا يبدي للبطلة أنه فعلاً يحب اللقاء الجسدي بها، ولهذا، هي تتركه، وتترك له رسالة مكتوبة بالعربية. هذه الرسالة، لا يستطيع فك شيفرتها، وبهذا، يصطحب المشاهدين الى رحلة في واقع العربية في فرنسا. يذهب الى صديقه، يسأله أن يترجم له الرسالة الى الفرنسية، لكن صديقه هذا يقول له أنه يحكي بالعربية، لكنه لا يقرأ ولا يكتب بها، وحده الإمام يفعل ذلك، ووالده. غير أن أحمد لا يذهب الى الامام، فالرسالة قد تكون قصيدة ايروتيكية، ولهذا، يفضل أن يفتش عن حل مختلف.

هنا، لا بد من ملاحظة، وهي أن فيلم بو زيد، وككل الأفلام التي تستحق مشاهدتها، تطرح مواضيع من دون أن تطرحها، فتتسم بقدرة على التلميح لها بلا مغالاة. فتطرح المخرجة موضوع اللغة العربية في فرنسا، وتبين وضعها: من يتكلمها؟ كيف؟ وإن كان الإمام وحده يتحدث بها، ومعه جيل قديم من المهاجرين، فبأي متخيل هي مرتبطة؟ وهل هذا المتخيل يعين، وعند التكلم بها، على ربطها بلغة أخرى، يعين على أن تكون طريق الى لغة أخرى، كالفرنسية؟ أم، وعلى العكس، فهي، وبارتباطها به، لا يكون الطريق الى أي لغة أخرى سوى الابتعاد عنها؟ هذه استفهامات، أعتقد أن الفيلم استطاع أن يطرحها من دون أن تكون هاجسه.

يعود البطل الى أبيه، ويستفهم منه عن العربية التي لم ينقلها إليه، فيخبره عنها، عن كونه كان يفهمها في صغره، وعندها يساعده على فك شيفرة الرسالة. بفعل ذلك، ثمة ما يحصل، وبو زيد تصوره بطريقة ثاقبة في مشهد رقصة البطل. فهذه الرقصة هي أثر العربية فيه بما هي ولادته فيها، بما هي انتقاله اليها. يتعرف البطل على العربية، وبهذا، ثمة رغبة منه صوب رغبة فرح فيه، وبهذا، يحيا حبهما.

الحب هو دوماً لقاء بين لغتين غريبتين عن بعضهما البعض، بحسب العيادة التحليلية. ويمكن الاستناد الى فيلم بو زيد، من أجل إضافة أمر بعينه: الحب هو ما يجعل كل لغة تصير لغة "أجنبها"، اي الذي لا يتحدثها، اذ انه، وبفعل الرغبة في الحب نفسه، يكتشف أنها، وفي الأساس، لغته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024