صباح فخري... حلب تخسر قدودها

المدن - ثقافة

الثلاثاء 2021/11/02
توفي الفنان السوري الحلبي، صباح فخري (اسمه الحقيقي صباح الدين أبو قوس)، الملقب بـ"سلطان القدود الحلبية" و"قلعة حلب الثانية"، عن عمر ناهز 88 عاماً، وهو مطرب من أعلام الموسيقى الشرقية والعربية. وقد حطم الفنان السوري الرقم القياسي في الغناء عندما غنى في مدينة كاركاس بفنزويلا مدة 10 ساعات بلا انقطاع سنة 1968. وبحسب وكالة "سانا" السورية الرسمية: "تختزل مسيرة صباح فخري تراثاً ضارباً في العراقة يحمل من روح الأندلس وإبداع أبناء حلب وتماهي الإنسان مع هذا الإرث وقدرته ليس على صونه والحفاظ عليه فحسب بل على تطويره وتقديمه بشكل يستهوي جمهور اليوم والغد. وكرم مؤخراً من قبل منظمة طلائع البعث في دار الأوبرا لدوره في إغناء التراث الغنائي العربي والسوري الأصيل".

ولد مغني "قلْ للمليحة" في حلب العام 1933، حصل على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة العام 2007 تقديراً لإنجازاته في خدمة الفن. كما شغل مناصب عديدة، فانتخب نقيباً للفنانين، ونائباً لرئيس اتحاد الفنانين العرب، ومديراً لمهرجان الأغنية السورية.

بحسب كتاب "صباح فخري سيرة وتراث" لشذا نصار، قيل ما يشبه الأساطير حول صوت الفنان منذ كان "رضيعاً"، وهو تربى مع والده الذي يتبع الطرق والزوايا الصوفية، وكان يصطحبه الى مسجد الأطروش ومساجد أخرى، حيث استمع الى جهابذة التلاوة والتجويد والإنشاد، حتى أن الشيخ أحمد المبيض لاحظه وهو يتردّد على زاوية الباذنجكية، في باب النيرب، واستمع الى صوته، ولم يمنعه ذلك من أن يصطحبه الى حلقات النقشبندية. وعندما بلغ العاشرة من عمره، اكتسب من أصدقاء أبيه، مثل عمر البطش ومصطفى الطراب وصبحي الحرير وبكري الكردي، كل شيء من علوم النغمات والأوزان.

برز صباح أبو قوس في مدرسة الحمدانية، وتفوق في اللغة العربية والتربية الدينية بسبب ختمه القرآن. ومن شخصيات حلب المعروفة، عازف الكمان سامي الشوّا، الذي التقى صباح الدين الطفل، وانتبه لصوته فـ"استنفر قواه، وذكاءه وخبرته في العمل الفني والاجتماعي، لصقل موهبة هذه الخامة"(شذا نصار)، ووقع اختيار سامي الشوّا على صباح، وهو الاسم الذي عرف به الفنان الراحل في الحفلات التي دعاه إليها الشوا، واصبح اسم شهرته الفنية..
 

وعدا عن أن سامي الشوّا اختار له لقب محمد صباح، ففي إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة (1947) التي كان يقدمها المذيع صباح قباني (شقيق الشاعر نزار قباني) قال معلناً عن الطرف المعروف باسم محمد صباح: "أراد النائب الكريم فخري بك البارودي (نائب من دمشق) أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه، لذلك نقدم لكن الآن المطرب صباح فخري". وفي معهد الموسيقى الشرقية الذي أسسه فخري البارودي، درس على يد عمر البطش وعزيز غنام ومجدي العقيلي، وتعلم منهم الإيقاعات والموشحات ورقص السماح وفن غناء القصيدة الأصولي والأدوار والنظريات الموسيقية والإلقاء الغنائي بواسطة الصولفيج والمقامات وأساليب الانتقال.

وبمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر ناهز 14 عاماً وكانت أنشودة "يا رايحين لبيت الله/مع السلامة وألف سلام/مبروك عليك يا عبدالله/يا قاصد كعبة الإسلام". وأول أدواره القديمة كان من ألحان سري الطنبورجي، وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق وعمل بائع أحذية. وتقول الأغنية "أنا في سُكرين من خمر وعين/واحتراق بلهيب الوجنتين/لا تزدني فتنة بالحاجبين/أنا في سُكرين". وقد غدت هذه القصيدة ملتصقة باسم صباح فخري بعدما أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.

وبعد فترة تعثُّر في الإذاعة، غادر صباح فخري دمشق، إلى حلب، وعاد إلى اسمه صباح الدين أبو قوس، ودخل الكلية الاسلامية، وعمل جابياً لنقابة أصحاب معامل النسيج. ثم جاءت الفرصة ليعمل في سلك التدريس "وكيل معلم" في مدرسة الأنصاري، ثم في مدارس الأرياف حيث عاش الحب العذري من جديد، وسرعان ما التحق بالجندية أو خدمة العلم.

بعد الجندية، عاد صباح الى الغناء، سواء في الحفلات أو البيوت. وحين أعلن عن افتتاح بث تلفزيوني في كل من القاهرة ودمشق، في آن واحد، يوم 23 تموز 1960، كان المدير العام وقتذاك صباح قباني.. الذي كلف غالب طيفور الاتصال بصباح فخري ليشارك في افتتاح تلفزيون الجمهورية العربية المتحدة في دمشق.


وسرعان ما قدم مجموعة من الأغاني، وكان زواجه الأول وهو في الثلاثين من عمره، من السيدة علية الإدلبي، طليقة أخيه بعد مرضه. وبعد حرب 1967 استنفر صباح فخري داعياً الى الجهاد عبر المذياع، ثم أعد قصيدة وطنية من ألحان ابراهيم جودت، حضرت "بسرعة يستوجبها الظرف القاهر، وتقول: وطني ونذرت له العهدا/بدمي وبذلك له الجهدا"، وأيضاً قدم أغنية حماسية على إيقاع حرب رمضان أو تشرين...

وشغل الفنان الراحل، خلال مسيرة حياته العديد من المناصب، وهي نقيب الفنانين في سوريا ونائب رئيس اتحاد الفنانين العرب. كذلك، "انتُخِبَ" عضواً في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998 وعضواً في اللجنة العليا لمهرجان المحبة في اللاذقية وعضواً في اللجنة العليا لمهرجان الأغنية السورية ومديراً عاماً للمهرجان الأول والثامن. وكان شديد الاندفاع في حبه لنظام الاسد ولقاءات الاسد حتى في خضم الازمات الكبرى...

أصبح صباح فخري واحداً من أعلام الغناء العربي والعالم واشتُهر في السجلات العالمية للمطربين كواحدٍ من أهم مطربي الشرق، حيث لحّن وغنّى العديد من القصائد العربية للشعراء أبي الطيب المتنبي، أبو فراس الحمَداني، مسكين الدارمي، ابن الفارض والروّاس، ابن زيدون، ابن زهر الأندلسي، لسان الدين الخطيب.

كما لحّن وغنى لشعراء معاصرين مثل: فؤاد اليازجي، أنطوان شعراوي، د. جلال الدهّان، د.عبد العزيز محي الدين الخوجة، عبد الباسط الصوفي، عبد الرحيم محمود، فيض الله الغادرين، عبد الكريم الحيدري، وللفنان صباح فخري خمس أسطوانات كبيرة، وعشرين كاسيت صوت بمدّة ساعة لكل منها، من أعماله الأكثر شعبية، مثل "مالك يا حلوة مالك" و"خمرة الحب اسقنيها" و"قدك المياس"، و"يا طيرة طيري يا حمامة"، و"آه يا حلو"، من التراث والفولكلور السوري.

من أعماله السينمائية فيلم "الوادي الكبير" مع المطربة وردة الجزائرية، كما شارك في فيلم "الصعاليك" العام 1965 مع عددٍ من الممثلين مثل دريد لحام ومريم فخر الدين، ومن برامجه التلفزيونية "أسماء الله الحسنى" مع عبد الرحمن آل رشي ومنى واصف وزيناتي قدسية، ومسلسل "نغم الأمس" مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ووثق ما يقارب 160 لحنًا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وكان من المحفاظين على التراث الموسيقي العربي الذي تنفرد به حلب.

حصيلة صباح فخري الفنية وثق لها كتاب للباحث التونسي إلياس بودن، مبيناً أنها تحتوي 347 عملاً غنائياً، منها 110 من الطرب القديم التي لا يعرف لها ملحن، و66 عملاً لحنها وغناها صباح وتشمل موالات وقصائد وموشحات وطقاطيق، كما غنى من ألحان غيره نحو 87 موشحاً لملحنين سوريين ومصريين، ورُوي عنه أنه يحفظ أربع سفن "دفاتر" حيث تحتوي كل سفينة على ألف موشح.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024