مئوية الثورة العربية: من مثالية الأدب إلى معركة التنوع

خالد زيادة

الأربعاء 2016/09/21
(*) يشكل إعلان الثورة العربية في تموز 1916، الحد الفاصل بين تاريخين أو عصرين. كذلك فإن إعلان الثورة من مكة هو بداية لمسار طويل متشابك ومعقد يتواصل حتى يومنا هذا بعد قرن من الزمن على الطلقة التي اطلقها الشريف حسين بن علي من بندقيته معلناً بذلك بداية الثورة على الأتراك.

ذلك أن العروبة كانت قبل هذا التاريخ مجرد فكرة تدور في عقول الكتّاب والأدباء والصحافيين. والتعبير العملي الوحيد الذي اتخذته العروبة قبل إعلان الثورة كان المؤتمر الذي عقد في باريس العام 1913 أي قبل الثورة بثلاث سنوات، والذي ضم مجموعة من المثقفين والناشطين بلغ عددهم 23 مندوباً من لبنان وسوريا والعراق وفلسطين. ومراقبين من مصر. أما موضوعات المؤتمر فكانت: الاحتلال الأجنبي. حقوق العرب في الدولة العثمانية. ضرورة الاصلاح والحكم الذاتي، والمهاجرة من وإلى سوريا. أما قرارات المؤتمر  الذي استمر لبضعة أيام (13-23 حزيران/ يونيو 1913) فكانت: 
- المطالبة بالإصلاحات
- مشاركة العرب في الحكم
- تكوين حكم ذاتي في الولايات العربية
- اعتبار اللغة العربية لغة رسمية.
هذا يعني أن أبعد ما توصل اليه المؤتمر هو المطالبة بالحكم الذاتي واعتماد العربية لغة رسمية. ومع ذلك وبالرغم من لغة الاعتدال التي صبغت القرارات، إلاّ أن حكومة "الاتحاد والترقي" حكمت على غالبية المشاركين في المؤتمر بالإعدام.

إلاّ أن هذا المؤتمر الذي كان أول خطوة يقوم بها العرب في الولايات العربية المشرقية، لم يأتِ من فراغ فقد كان نتيجة لجهود "جمعية العربية الفتاة"، التي أسسها عدد من الطلاب العرب في باريس التي تأسست قبل عامين من انعقاد المؤتمر. ولعل فكرة "العربية الفتاة"، كتنظيم، وردت في أذهان بعض الشباب الذين كانوا يدرسون في استامبول في الوقت الذي وقع فيه الانقلاب العثماني عام 1908، وضم عوني عبد الهادي ومحمد رستم حيدر وأحمد قدري. واذ نذكر هذه الوقائع لكي نقول بأن فكرة العروبة لم تتحول إلى نشاط سياسي إلاّ بعد الانقلاب الدستوري عام 1908. إلاّ أنّ العروبة كفكرة كانت قد أخذت بالتبلور في أعمال الأدباء والكتّاب والشعراء قبل ذلك بنصف قرن من الزمن ونستدل على ذلك من العديد من الأعمال والقصائد. ولعل أبلغ تعبير عن تبلور الشعور بالعروبة كرابطة قومية نجده في مطلع قصيدة ابراهيم اليازجي "تنبهوا واستيقظوا أيّها العرب (العائدة لعام 1868)".

وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ازدادت التعبيرات عن هذا الانتماء إلى العروبة والعودة إلى جذور العربية وإلى الرموز العربية حتى تلك السابقة للإسلام.

والواقع أن فترة السنوات السبع التي تفصل بين الانقلاب الدستوري عام 1908 وخلع السلطان عبد الحميد الثاني، العام 1909، وبين اندلاع الثورة. كانت سنوات حافلة بالأحداث والتحولات.

ففي ردود الأفعال الأولى على الانقلاب العسكري نلمس تأييداً واسعاً من الجانب العربي. خصوصاً أن الانقلاب أتاح حرية الرأي والصحافة، وبعث الآمال بالإصلاح ولا شك بأنّ الأمل بالإصلاح المنشود بقي يراود العديدين من أهل الرأي الذين كانوا ما زالوا يعتقدون بأن الدولة العثمانية يمكن أن تستعيد قوتها وتجابه الأطماع الأوروبية. إلاّ أن دائرة الذين أملوا بالإصلاح سرعان ما تقلصت، خصوصاً بعد تصاعد المشاعر القومية الطورانية وموجة العداء للعرب في استامبول التي أحجمها حزب الاتحاد والترقي الحاكم في استامبول. وجاءت أحكام جمال باشا (وزير البحرية وحاكم سوريا) بإعدام أبرز العروبيين عام 1915 و1916. لتقطع الأمل بأي استجابة لمطالب العرب في الإصلاح والحكم الذاتي والمشاركة في الحكم. الأمر الذي فاقم من المشاعر القومية واتساع الشرخ بين العرب والأتراك.

من بين الأحداث والوقائع البارزة التي شهدتها تلك الفترة هي عودة الشريف حسين بن علي من منفاه الطويل في استامبول وتعيينه أميراً على مكة. وسرعان ما أظهر الأمير استقلالاً في الرأي وخصوصاً موقفه الناصح بعدم مشاركة الدولة في الحرب العالمية التي اندلعت العام 1914، وكان الشريف حسين أبرز شخصية عربية في ذلك الوقت، الأمر الذي شجع الحلفاء على الاتصال به، والإنكليز خصوصاً، وتبادل الرسائل معه بخصوص مستقبل العرب والمنطقة بعد نهاية الحرب.

ومهما يكن من أمر، فإن الشريف حسين قد أدرك المتغيرات الدولية، وأدرك أن الأتراك الذين انخرطوا في حرب عالمية كان نصحهم بعدم خوضها والمشاركة فيها، قد وضعوا مصير الدولة العثمانية على المحك. وكانت نهاية الحرب العالمية العام 1918، قد أظهرت أن الإمبراطوريات الجامعة للإثنيات قد طوي تاريخها، فانهارت الإمبراطورية النمساوية الهنغارية وانهارت القيصرية الروسية، كما انهارت الدولة العثمانية.

وقد اختار الشريف حسين ابنه الأمير فيصل لقيادة الثورة. وهو الذي جمع العديد من الصفات والخبرات التي تؤهله لمثل هذه القيادة، وحسب أمين الريحاني، يقول حازم صاغية:" أنه في صباه درس هو وإخوانه على يدي مدرس سوري استقدمه الشريف حسين إلى الحجاز هو صفوت العوا، وفي شبابه عينه والده مديراً لشؤون البدو فصادقها وقاتلها وأخضعها وعرفها عن كثب. في وقت لاحق اختير فيصل نائباً عن مدينة جدة الساحلية  إلى "مجلس المبعوثان" حيث خالط النواب والساسة السوريين كما انتسب إلى "الحزب العربي" العامل على تحسين وضع العرب من ضمن الرابط العثماني. وإلى ذلك، كان الأمير الهاشمي الشاب صلة الوصل بين أبيه وجمال باشا، تابع مع الأخير أوضاع السياسة  السورية انتهاءً بالإعدامات التي أثرت في وعيه  ووعي آخرين. لقد وفرت هذه العناصر لصاحبها (الأمير فيصل) سعة أفق لم يكن الكثيرون من قادة ذاك الزمن يملكون مثلها".

هذه الخبرات أهلته لقيادة الثورة، التي استقطبت عناصر وأطراف جاءت من بيئات متباينة: السوريون واللبنانيون والفلسطينيون من المنتسبين إلى "العربية الفتاة"، أو "الحزب العربي" الذي أصبح فيصل عضواً فيه، وهؤلاء من طوائف متعددة بينهم السنة والموارنة والشيعة والأرثوذوكس والدروز. كما انضم إليه الضباط العراقيون وبعض الضباط السوريين ممن كانوا في "جمعية العهد" في استامبول. تُضاف إلى ذلك العشائر العربية التي انضمت إلى الثورة بحيث أصبح أبناء العشائر (البدو) يمثلون النسبة الطاغية من جيش الثورة. وبرزت أسماء نوري الشعلان شيخ عرب الرولة، وعودة أبو تايه كقادة ارتبطت بأسمائهم انتصارات حاسمة في خضم تقدم الجيش باتجاه دمشق.

استطاع فيصل أن يقود هذه العناصر ذات المشارب المتباينة، وحين دخلت قوات الثورة إلى دمشق كانت عناصر أخرى مدينية تنتظر الانضمام إلى الثورة من التيارات المحلية وأبناء العائلات. بما في ذلك شخصيات بارزة كانت لتوها قد انتقلت من الجانب العثماني- التركي إلى جانب الثورة، بالإضافة إلى الطامحين إلى مناصب حكومية أو قيادية. وكان من الصعب أن يتقبل أبناء المدينة، وخصوصاً الميسورون وأبناء الأرستقراطية الدمشقية، حضور أبناء العشائر وانتشارهم في أرجاء المدينة.

وكان بإمكان الأمير فيصل أن يضبط ايقاع هذه التنوعات والتناقضات إلى حين، إلا أنه وخلال الفترة القصيرة من عمر الدولة العربية في دمشق، كان دائم الغياب في أسفار إلى أوروبا لمتابعة المفاوضات في باريس. في الوقت الذي كانت فيه التناقضات تتفاقم، وتتسع الهوة بين المواقف المتعارضة من مسائل المفاوضات، إضافة إلى عدم تقدير الأفرقاء في سوريا الضغوط والصعوبات التي يواجهها الأمير فيصل في أوروبا.

لا يمكن في هذه الورقة استعراض الأحداث بين الدخول إلى دمشق العام 1918 والخروج منها خلال أقل من عامين، ولا يمكن أن نسرد كل الوقائع التي تدل على حجم التناقضات بل الصراعات بين القوى التي تنتسب إلى الثورة أو تدعي الانتساب إليها.

وما يمكن استخلاصه هو أن فكرة العروبة، بل فكرة الثورة كحدث، تعبّر عن إنعطافة تاريخية كبرى، كانت أكبر وأعمق من القوى التي تحملها. ولم تكن فكرة الثورة العربية، بين اندلاعها، وبين بلوغها دمشق وخروج الجيش العثماني من الولايات العربية، تملك القدرة أو الوقت الكافي على خلق جيل متجانس، وقيادة متجانسة، وجيش قادر على مجابهة التحديات المتمثلة بالمخططات الاستعمارية.

عامان من عمر الدولة العربية في دمشق، ظهرّا التناقضات بين النواة الصلبة الممثلة بأعضاء "العربية الفتاة"، التي تحولت إلى حزب علي باسم "حزب الاستقلال العربي"، المتحالفة مع عناصر "جمعية العهد" وغالبيتهم من الضباط العراقيين... وبين السياسيين التقليديين. وكانت انتخابات المؤتمر السوري قد أبرزت نفوذ العائلات التقليدية التي فازت بغالبية مقاعد دمشق إلى المؤتمر. إلاّ أنّ التأييد الذي كان يحظى به الأمير فيصل من جانب حزب الاستقلال، لم يستمر، بسبب ما رشح عن اتفاقه مع كليمنصو في بنود لا تتوافق مع مطلب الاستقلال الناجز.
وظهرت التباينات بين السوريين والعراقيين والفلسطينيين. وواقع الأمر أن العراقيين، وغالبيتهم من الضباط، انكفأوا عن المشاركة في الحياة السياسية السورية، بينما أخذت العناصر الفلسطينية تُقدم مصير فلسطين على سواه، بعدما تبينت ملامح المشروع الصهيوني. وعدا عن ذلك كله، فإن التيار الشعبوي والراديكالي، بقيادة الشيخ كامل القصاب، كان يضغط باتجاه المواجهة التي أسفرت في النهاية عن معركة ميسلون، التي لم تستمر سوى ساعات قليلة.

لم يتم للثورة ومن ثم لإدارة فيصل، تحقيق تجانس وإجماع بين القوى التي شكلت قاعدة حكمه. ولم تكن ثمة إدارة حكومية قادرة على مجابهة الظروف الاقتصادية الصعبة لبلاد خارجة لتوها من الحرب. ولم يتح الوقت الكافي لتأسيس جيش نظامي يجابه التحديات والمخططات. من هنا فإن إقامة مملكة عربية، أو دولة سورية تضم فلسطين ولبنان، كانت مشروعاً صعب التحقق، ليس فقط بسبب الاصرار الفرنسي على وضع اليد على سوريا ولبنان- لكن بسبب عدم توافر الظروف وعدم كفاءة القوى المكونة للثورة على هذه المهمة.

انتهت التجربة العربية الأولى بمعركة ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920، واستشهد فيها مئات الجنود والأهالي من المقاومين، وعلى رأسهم وزير الدفاع يوسف العظمة، إلا أنّ هذه المعركة تحولت إلى رمز للعروبة الصاعدة كفكرة وانتماء. وبقيت الذكرى السنوية لميسلون تُستعاد على امتداد نحو نصف قرن من الزمن، باعتبارها المواجهة الأولى بين المشروع العربي والمشروع الاستعماري. 

وبغض النظر عن الملابسات التي رافقت المعركة والتحليلات المحقّة التي ترى أن المعركة خاسرة سلفاً، لكن المواجهة بأدوات قليلة ومقاومة غير منظمة وجيش غير مستعد، أعطت دفعاً لفكرة العروبة، ونموذجاً للمقاومة.

وقد تجلى ذلك في العام 1925، في اندلاع الثورة السورية الكبرى التي كانت استمراراً لمعركة ميسلون، ورداً على السياسة الفرنسية التي قسمت سوريا إلى دويلات طائفية. فقامت الثورة في كل من جبل الدروز، ودمشق، ودير الزور، وحماه، وإدلب وحلب واللاذقية، أي على امتداد الجغرافيا السورية. وأظهر الفرنسيون قسوةً وعنفاً، ما أدى إلى سقوط مئات الشهداء من المقاومين والأهالي الذين قضوا تحت القصف. إلاّ أن هذه الثورة أظهرت وحدة الشعب السوري، ووحّدت سوريا وطرحت مشروعاً متكاملاً للاستقلال.

كان قادة الثورة السورية من أبناء الثورة العربية، وكذلك فإن قادة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الانكليزي والاستيطان الصهيوني هم قدامى "العربية الفتاة". أما في العراق، فإن الملك فيصل وجد بين الضباط العراقيين، ومعاونيه من السوريين واللبنانيين، المجموعة التي حكمت وبَنَت الدولة العراقية.

كانت التجربة العربية في دمشق خلال عامين، وبعد أربعة أعوام على انطلاق الثورة العام 1916، بمثابة مختبر تمت من خلاله صياغة العروبة فكراً وممارسة.

فالفكرة العربية التي عبّرت عنها "العربية الفتاة" كانت ذات طابع مثالي اذا جاز التعبير، تنتسب إلى التعبيرات الأدبية التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تتأسس على المعطى اللغوي والعرقي. إلاّ أن العروبة التي صاغتها الثورة العربية، وخصوصاً خلال التجربة السورية القصيرة، أخذت في الاعتبار التنوع والتعدد التي يعبّر عنها السكان، وعلى تعدد المصادر الفكرية التي تتكون منها العروبة.

ففي خضم الظروف الصعبة، شهد العام 1919، انضمام ساطع الحصري إلى الحكومة العربية وتعيينه وزيراً للمعارف. ونظراً لخبرته السابقة كموظف إداري وتربوي، وعضو سابق في "الاتحاد والترقي"، كان الحُصري أقرب إلى الخبير التربوي، لهذا عكف على إعداد البرامج التعليمية. وكان الحُصري علمانياً، بنى برامجه على الثقافة واللغة والتاريخ، وأهمل العامل الديني، الأمر الذي أثار حفيظة رجال الدين في كلٍ من سوريا، وفي العراق حيث استكمل مشروعه التربوي قبل أن يغادره العام 1941. وكان الحُصري أول منظّر للعروبة المنفتحة والمتعددة، المبنية على أسس علمية، بما في ذلك الاجتماع والتاريخ (ونذكر هنا دراساته عن ابن خلدون في جزئين وكذلك مؤلفه في التربية والتعليم). وهو من صاغ عروبة تضم مصر والمغرب العربي، وقد أصبح مديراً للدراسات في جامعة الدول العربية.

وفي العام 1919، شهدت دمشق ولادة "المجمع العلمي العربي"، الذي أصبح لاحقاً "مجمع اللغة العربية"، والذي أخذ على عاتقه تعريب الإدارة، وتحديث العربية ونشر التراث. وقد عُهدت رئاسة المجمع إلى محمد كرد علي، الذي يمثل الفكر الاصلاحي، وقد ضم عند تأسيسه شخصيات اسلامية ومسيحية مشهوداً لها، مثل عيسى اسكندر المعلوف، وعبد القادر المغربي، وطاهر الجزائري.. والواقع أن اعضاء المجمع من المسلمين كانوا أقرب إلى فكر محمد عبده ورشيد رضا.

كانت الثورة العربية، بتجربتها القصيرة، قد جعلت فكرة الانتماء إلى العروبة كخيار، ليس فقط للنخبة المثقفة والمتعلمة، ولكن لكل الفئات والطوائف والطبقات الاجتماعية. ويمكن القول أن قيادات الثورة ومثقفيها، والفئات التي انضوت تحت ظل العروبة، حكمت كلاً من العراق وسوريا والأردن لعقود متتالية. ويمكن أيضاً ان نلمس تأثير العروبة في لبنان وخصوصاً في صيغة الميثاق الوطني العام 1943...

(*) كلمة ألقيت خلال ندوة في عمان بمناسبة مئوية الثورة العربية الكبرى...


 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024