الناقد أنسي الحاج يسأل.. وأنسي الحاج الشاعر يجيب

محمود الزيباوي

الإثنين 2021/02/22
توفّي الشاعر أنسي الحاج قبل سبع سنوات، وتحديداً في 18 شباط 2014، تاركًا وراءه تاريخاً أدبياً حافلاً ما زال يثير، حتى اللحظة، الكثير من النقاشات والاسئلة والآراء المختلفة. إلّا أن الأكيد أنه مثّل في شعره علامة فارقة كبرى في تاريخ الحداثة الشعرية العربية. 

لا نعرف الكثير عن بدايات أنسي الحاج في عالم الشعر والأدب والنقد. الشائع أنه بدأ بالكتابة والنشر باكراً، منذ منتصف الخمسينات، يوم كان طالباً في المدرسة الثانوية، ثم دخل الصحافة اليومية، وحرّر الزوايا الأدبية في جريدة "النهار"، وذلك قبل ولادة الصفحة الثقافية المستقلة. بعدها، انضم إلى أسرة مجلة "شعر"، وحمل شعاراتها، ونشر ديوانه الأول في نهاية العام 1960، وأطلق عليه عنواناً غامضاً، "لن"، وقيل يومها إنه سينشر كذلك دراسة عن الشعر الفرنسي المعاصر، غير أن هذه الدراسة لم تصدر.

صدر ديوان "لن" عن "دار مجلة شعر"، وجاء في التعريف: "تخطو مجموعة "لن" لأنسي الحاج، بالشعر العربي خطوة جريئة نحو الحد الفاصل بين القديم والحديث. الكلمة العربية تنفجر في هذه المجموعة بطاقات جديدة لم تألفها من قبل، وأسلوب التعبير يتّخذ معنىً جديداً يقع في خطّ الشعر الطليعي المعاصر في العالم. أما المضمون، ففيه من التجربة الشخصية والصدق ما يجعله معبّرا عن الجيل الطالع أجمل تعبير. في هذه الباكورة الشعرية، يبدأ أنسي الحاج اتجاها فريدا في الشعر العربي. وفيها يقف على رأس جيل شعري متمرّد، متطلّع إلى البناء الفريد الشامخ على أنقاض المبتذل والمسبوق والعاجز في تراثنا العربي والحضاري. وُلد لأنسي الحاج في بيروت منذ ثلاث وعشرين سنة. وهو يشتغل في الصحافة الأدبية، ويشترك في "خميس" مجلة شعر وهيئة تحريرها".

جمع الشاعر الشاب في هذا الديوان مجموعة من القصائد النثرية، إضافة إلى قصيدة طويلة من ثلاثة عشر باباً عنوانها "الحب والذئب، الحب وغيري". وافتتحه بمقدمة طويلة استهلّها بالسؤال: "هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟". استحوذت هذه المقدمة الطويلة على انتباه الكثيرين من متابعي حركة الحداثة الشعرية، وأثارت سجالاً أدبياً واسعاَ، وتحوّلت بسرعة إلى بيان شعري حجب في كثير من الأحيان الباكورة نفسها. دخل الشاعر في هذا السجال، وأجرى محاورة مع نفسه نشرتها مجلة "الأسبوع العربي" في 6 شباط/فبراير 1961، وكتبت في تعريفها بها: "لقد وضع أنسي الحاج نفسه في هذه المقابلة، التي جرت بينه وبين نفسه، موضع السائل والمجيب في موضوع حساس، وهو موضوع القصيدة النثرية الذي ما زالت تتضارب الآراء حوله. ويُعدّ أنسي الحاج واحداً من رواد القصيدة المنثورة، ومن المدافعين عنها بحماس".

بين النظام والفوضى
تنقسم هذه المحاورة الذاتية إلى قسمين. القسم الأول خاص بقصيدة النثر، ويشكّل بمعنى ما استعادة لمقدّمة "لن". كتب أنسي الحاج في هذه المقدّمة الذائعة الصيت: "النثر محلول ومرخي ومبسوط كالكف، وليس شد أطرافه إلا من باب التفنن ضمنه. طبيعة النثر مرسلة، وأهدافه إخبارية أو برهانية، إنه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضد. القصيدة عالم مغلق، مكتف بنفسه، ذو وحدة كلية في التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة". وأضاف: "شاعر قصيدة النثر شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنساناً حراً، أيضاً تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشوش والنظام معاً. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي".

أعلن الكاتب انتماءه إلى عائلة "الشعراء الملاعين"، وقال: "يجب أن أقول أيضاً إن قصيدة النثر، وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطياً، عمل شاعر ملعون. الملعون في جسده ووجدانه. الملعون يضيق بعالم نقي. إنه لا يضطجع على إرث الماضي. إنه غاز. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر". عاد الشاعر في حواره مع نفسه إلى الكلام عن هذه اللعنة، وقال: "الزمن الحديث، اليائس، المتمرد، والمجنون بالحرية، أفلست فيه الأشكال المبتسرة والمسبقة تبعاً لانفتاح الهاوية واتساعها بين إنسان وإنسان، بين حياة وحياة، بين العافية والمرض، والانسجام والتناقض، والاطمئنان والقلق، والنظام والفوضى. قصيدة النثر طريقة تعبير حرة لشاعر الزمن الحديث، فهي تتّسع لاضطراباته وتلاطمات ما حوله، وهي تماشيه في أقصى أحلامه مثلما تماشيه في أعنف مآسيه. سرّها في أنها جبلة يديه، لا من جعبة أجداده وأمواته".

تميّز القسم الثاني من هذه المحاورة بطابعه الذاتي، واستهلّه الكاتب بالسؤال: "قيل لي أن تسعين بالمئة من الذين قرأوا "لن" لم يفهموا أكثر من خمسة بالمئة. كيف تفسر ذلك؟". فأجاب: "هذه المجموعة ليست مجموعة خطب، ولا ضمة رسائل غرام، ولا قصص روز اليوسف. كما أنها ليست لتعليم الناس فن الحياة الزوجية، وكيف يصبح الرجل مليونيراً. لقد سبّبت "لن" صدمة للذين توقّعوا أن يجدوا فيها ما يجدونه عادة في هذا السبيل من الكتب التي تزدحم كالنفايات بألوانها البلهاء في كل مكتبة. ولم أكن لأجهل ذلك حين كنت أهمّ بدفعها إلى الطبع". تواصل هذا الحوار، وكان السؤال الثاني: "إذن لماذا نشرتها في كتاب ما دمت تعلم ذلك؟". وجاءت الإجابة: "لأنني أريد أن أقول شيئا يلحّ عليّ. لقد قلته، أو إني قلت بعضه، أو أنني أشرت إليه إشارة. ما سوى ذلك لا يعنيني. لقد اخترت، قبل أن أنشر "لن"، أن أقف من الجمهور موقف غير العابئ بآرائه وأذواقه. لم أدعه يفرض عليّ ذوقه وشروطه. وحينما اخترت هذا الموقف كنت أعلم ما سيترتب عليه، وأنا الآن أتحمّل دون أي ندم مسؤولية اختياري".

جاء السؤال الثالث حول "الغموض الذي يكتنف قصائد المجموعة". وكان الجواب: "انه ظلام نفسي الممزّقة أمام نور هذا العالم القذر. الغموض؟ وماذا تريد؟ ان أقول للسيدات والسادة: سيداتي سادتي، واحد وواحد يساويان اثنين؟ ان أضع النقاط على الحروف كقاموس المنجد؟ أم ان تبدأ القصيدة بشعر الرأس وتنزل إلى النهدين لتنتهي بالسرير؟ أما آن لنا الاقتناع بأن الشعر ليس خطاباً ولا تغريراً بمراهقة؟ وانه ليس طبلاً لتهييج الجماهير؟ وأنه ليس نشرة إخبارية ولا بضع ألفاظ ممسوحة بالبويا لترنّ رنّة كويّسة في هذه الأذن أو تلك؟ للغموض في كتابي أسباب عميقة لا يمكنني اختصارها هنا. يمكنني أن أقول شيئا وحيداً: لم أتعمّد الغموض بل هو انعكاس صادق لتجربتي".

تابع الشاعر هذا الحوار مع ذاته حول غموض قصائده، وتساءل: "ألم يكن في وسعك تلافيه؟. فأجاب: بلى، بقليل من التزوير. بقليل من التواطؤ مع العبارات الجاهزة والتركيب الجاهز. بقليل من الغش والمسايرة. كان بإمكاني أن أتخلّى عن نفسي وأكتب أشياء يهضمها أساتذة المدرسة والصحافيون، متلافياً الغموض، والصعوبة، والتعقيد، والخ... شيء سهل فعلاً. ولكن، ماذا تريد، لقد فضّلت أن أكون حرّاً وصادقاً".

في الختام، بدأ المُحاور سؤاله بالقول: "يتهمونك". فسارع الشاعر بالردّ: "لا تكمل، مهما أسهب المتهمون في تعداد اتهاماتهم وتفنيدها يظلون دون الحقيقة. يتّهمونني بأشياء كثيرة لم أر، حتّى الآن، بينها تهمة واحدة مصيبة. يتّهمونني باستعمال الشتائم لإحداث الدويّ ويجهلون أن الشتيمة أقرب الطرق إلى الصمت. شتيمة صغيرة واحدة تختصر كتاباً. أجل: الصمت. ثمّة أشياء لا يُمكن أن تعالجها إلّا بالغضب والسباب، للخلاص منها. ويتّهمونني ألف تهمة. ويتّهمونني بالعمل على استمطار التهم فوق رأسي طلباً للشهرة. هل تدري لو يعلمون كم في اللحظة الواحدة أتّهم نفسي وأحكامها، لاستراحوا".

شاعر ضائع
ردّ الناقد انعام الجندي على هذه المحاورة الذاتية في مقالة نُشرت في "الأسبوع العربي" في الأسبوع التالي، وذلك تحت عنوان: "شاعر ضائع يبحث عن نفسه". انصبّ هذا الردّ في الدرجة الأولى على القسم الأول من محاورة أنسي الحاج الذاتية، أي على التعريف بقصيدة النثر. بعدها تطرّق الناقد إلى تجربة الشاعر "الناشئ"، وقال: "كل هذا يدلّ على ان التجربة ليست حقيقية. لا أزعم ان السيد الحاج غير جاد في محاولته، ولكن أستطيع التأكيد أنه لا يعرف بعد ما يريد، وأنه خُيّل إليه، ان قصيدة النثر ما يريد. ولهذا يتخبّط في البحث عن تعريف لها. انها لا تمثّل معاناته الخاصة، ولا تجسّد حقيقة تجربته، ان كانت له تجربة، بل إني أشك في ان تكون تجربته مكتملة. انه يعيش في أزمة الضياع، أزمة البحث عن مشكلته، التي ليست التمزّق ولا الغثيان ولا العبث. انه جاد في محاولته فهم نفسه، في أن تكون له تجربة، ويحسب انه له تجربة، والواقع غير ذلك. انه يحيا أفكاراً مجردة لا صلة لها بواقع أحاسيسه، بل أكثر من هذا، هو يحاول ان تكون له تجربة متّفقة مع هذه الأفكار المجرّدة. ولعلّي لا أعدو الواقع ان قلت ان الغموض في "لن" والاضطراب، والتسكّع في التعابير، لا يدرك ما تنطوي عليه، ناشئة جميعاً من تلك المحاولة. أمّا ألا يعبأ بالجمهور وذوقه، فليس مشكلة على أي حال".

في هذه المرحلة المبكرة من حياته، بدا صاحب "لن" شاعراً "ملعوناً"، وظلّ خارج السرب، بحيث يصعب تصنيفه. تابع أنسي الحاج مسيرته، ونشر في 1961 مجموعته الثانية "الرأس المقطوع"، وفاقت هذه المجموعة في "غموضها" غموض "لن"، ثم نشر "ماضي الأيام الآتية" في 1965. وبعد خمس سنوات، أصدر ديوانه "ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة"، وقيل يومها انه تحرّر من "اللعنة" التي رافقته في دواوينه الأولى، وتكرّست هذه الصورة مع صدور "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" في 1975. اندلعت الحرب اللبنانية، ودخل الشاعر في حالة من العزلة والصمت، وباتت إطلالاته الشعرية قليلة، ومنها ثلاث قصائد نشرها في مجلة "مواقف" في صيف 1978، أولاها قصيدة قصيرة عنوانها "الحقيقة"، ونصّها: "سحقاً للشعراء/ لولا ضجري منهم/ لما كتبتُ الشعر/ ولو لم أكتب الشعر/ لكنتُ بقيت/ كما كنتُ في مطلع العمر/ مجموعة أشعار غامضة/ لا أسمح بالاقتراب منها/ إلا لمن يعطيني كلّ شيء".

بعد سبع سنوات على رحيله، يبقى شاعر "لن" حاضراً في وجدان من قرأوه وأحبوه، ويبقى كما كان "مطلع عمره"، "مجموعة أشعار غامضة" تأسر بعمقها وذاتيتها وبغموض أسرارها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024