"المدن" تنشر "قميص الثلاثاء" لحسین مرتضائیان آبکنار

ترجمة غسان حمدان

الإثنين 2020/06/29
ولد القاص وكاتب السيناريو حسین مرتضائیان آبکنار العام 1966 في طهران، درس التمثيل المسرحي ثم اتجه لكتابة سيناريو الأفلام. وبعد مشاركته في الحرب الإيرانية العراقية اتجه لكتابة القصص الحربية. نالت روايته "عقرب على أدراج سلم محطة انديمشك للقطار"، جائزتي "مؤسسة كُلشيري" و"مهرجان" الأدبيتين في العام 1986؛ إلا أنها منعت بسبب نظرته المعادية للحرب، في حين إن الحكومة كانت ولا تزال تعدها "دفاعاً مقدساً". كما أنه اشتغل فترة رئيساً لتحرير مجلة كارنامه الأدبية، ودرّس فن القصة في كلية الفنون الجميلة التابعة لجامعة طهران. وبعد حصوله على منحة دراسية من جامعة هارفرد انتقل إلى الولايات المتحدة العام 2013. وفضلاً عن روايته، ألّف آبكنار، مجموعتين قصصيتين وهما "أوركسترا القيثارات الممنوعة" 1999، و"العطر الفرنسي" 2003. كما أنه أعد أنطولوجيا قصصية إيرانية وسيناريوهات مثل "لا أحد يعلم شيئاً عن القطط الفارسية" و"ماندوو".

ننشر هنا قصة "قميص الثلاثاء" التي خص بها المترجم غسان حمدان، "المدن"، وهي من ضمن مختارات قصصية لأكثر من عشرة كتّاب إيرانيين، تصدر عن دار "العولمة" في الكويت.

***

 

الجمعة: 7 شباط 2002

كنت قد علقت قميصي بمشجب الملابس الهلالي الشكل ذاك وألقيت كلآّبه المعدني حول المقبض الفوقاني للخوان. من هنا إذ أنظر إليه ثمة امرأة تقف أمامي وهي تنظر إليّ. نحيفة وطويلة. عندما تهتز حاشية كمها، أحس برداً. أذهب مسرعاً فأغلق النافذة. أعود ثانية إلى السرير وألفُّ الملاءة حولي. أنظر إليه ثانية. اليوم الثلاثاء. مضت أيام لم أذهب فيها إلى المكتبة. أظن أن ذلك اليوم كان ثلاثاء أيضاً. كنت أبحث في قعر حقيبة ملابس عن قرطيْ زمان فتوتي فإذا بنظري يقع على قماش القميص ذاك. كان أسود عديم البريق بزهور صغيرة رمادية. قلت فلآخذه إلى مليحة كي تخيطه لي. ما من أحد يصنع الياقة الإنكليزية كما تصنعها.

كانت يدي على جرس منزلهم عند ما انفتح الباب فجأة. كانت مليحة قد جاءت برفقة إحدى زبوناتها إلى الباب. ما أن رأتني حتى زعقت. قالت: "إيه يا عديمة الشرف، أمعلوم أين أنت؟"، وسحبت نفسها إلى الخارج وقبَّلَتني. ثم مضت جانباً كي تخرج المرأة. قالت لها:

- الأسبوع القادم جاهز يا عزيزتي.

ضيقت المرأة عينيها. كما لو كانت تريد أن تبتسم بالقوة. تذكرت مليحة للتو أنها لم تعرفنا على بعض. سحبت مرفقي نحوها وقالت: "حضرتها السيدة الكاتبة".

ذهلت المرأة لحظة. لم أعرف ما كان اسمها، أو ما إذا كانت مليحة قد ذكرت اسمها أصلاً أم لا. كانت تحدق متأملة في عيني. عندما ودعتها مليحة، قبلت إحداهما الأخرى. انحنت المرأة فجأة نحوي وقبلتني أنا أيضاً! ثم هبطت السلالم على عجل.

دخلت. عندما رأت مليحة القماش قالت: "لماذا هذا اللون؟! ينقبض قلب الواحدة".

قلت: "ولكنه، في المقابل، بسيط".

وضعت كفها تحت طية القماش ورفعتها نحو النور. قالت: "نوعه جيد؛ ياباني".

قلت: "يعود لعشر سنوات أو اثنتي عشرة".

قالت: "اخلعي لأرى".

ضحكتُ. قالت: "لا تخافي. الخياطات كالأطباء: محارم".

سحبت المقياس القماشي عن عنقها وقالت: "قفي مستقيمة" ووضعت رأس المقياس على كتفي وسحبت رأسه الآخر إلى ما فوق ركبتي. رأيت بين شعرها زغب قطن مشتبكاً. رفعتُ بضعة منه برؤوس أصابعي.

قالت: "أوووو"، وضمت رؤوس أصابعها معاً وقبَّلتْها: "قمر!"

قلت: "لقد سمنْتُ قليلاً".

أمسكت بأصابعها الخمسة خاصرتي وقرصتها. قالت: تسمين هذا سمنة؟! هذا له راغبون كثر، أيتها العزيزة".

تألمتُ. قالت: "والآن، أي موديل تريدين؟"

قلت: "ليكن بسيطاً. مستقيماً".

أشرت لها بيدي. قالت: "لا بد ياقة إنكليزية أيضاً".

حركت رأسي بمعنى نعم. نشرت القماش على الطاولة. قالت: "لا يزال ذلك السيد إياه زوجك؟ ما كان اسمه؟ جمال؟".

قلت: "جلال".

قالت: "ها، السيد جلال".

قلت: "ماذا فعلتِ أخيراً؟"

قالت: "هجَّجته فراح".

قلت: "المهندس؟"

قالت: "لا، يا عيني، أين أنت والأحداث؟ أعني الثالث. ما زال المهندس يحاول التودد على البعد".

قلت: "طيب، لماذا مرة أخرى"...

قاطعتني مسرعة: "الشيء الذي عند السيد المهندس يمتلكه الرجال الآخرون أيضاً. لم أكن أريد عبئاً. الرجيل! إنني أستخرج مصاريفي".

قالت بسم الله همساً وقصت القماش برأس المقص. قالت: "مبارك"، وطوت القماش ووضعته جانباً.

عند الباب قالت: "لم تقولي أين مدعوة".

قلت: "مجرد هوس".

قالت: "أروح فداء لهوسك"، وقدمت شفتها.

في اليوم التالي عندما عدت من المكتبة، قال زوجي من وراء الجريدة: "إن سيدة ما اتصلت هاتفياً عدة مرات حتى الآن".

قلت: "من كانت؟"

قال: "لم تعرِّف عن نفسها".

قلت: "ماذا كانت تريد؟"

قال: "لا أدري. قطعتْ سريعاً".

سمعت صوت ضحك ابنتي من غرفتها. في أيام الثلاثاء يأتي صديقها كي يشتغلا معاً على الإنكليزية. خلعت معطفي سريعاً وذهبت إلى المطبخ. صببت لهما شاياً ووضعته في الصينية.

أردت أن أفتح علبة البسكويت فسقطت الجعبة من يدي. تناثر البسكويت على أرضية المطبخ. قال زوجي: "ما كان ذلك؟!" قلت: "لا شيء". ودفعت البسكويت المهشم بحافة رجلي إلى تحت الخزانة.

أمام باب غرفة ابنتي وضعت الصينية على راحة يدي وبيدي الأخرى سويت شعري. ما أن قرعت الباب حتى فتحت ابنتي الباب وقالت: «تحية يا مامي» وأخذت الصينية من يدي. من شق الباب، رأيت صديقها لحظة وهو يجلس على حافة الفراش. كان قد قصَّر شعره. رأى أنني كنت أنظر إليه فخفض رأسه. قالت ابنتي: "ممنونة يا مامي" وأغلقت الباب. عندما التفتُّ رأيت أن زوجي كان ينظر إليّ من حيث يجلس. قلت: "إن هذين أيضاً بدلاً عن الدرس لا يفكران بغير اللعب".

قال: "كان السبب إصرارك. فلم تكن إنكليزية سميرا رديئة".

قلت: «نعم، ولكن منذ أن بدأ صديقها يشتغل معها صارت أحسن. ألم تصر؟» لم يجبني. أنا أيضاً لم أقل شيئاً بعد.

ما أن ذهبت إلى السرير ليلاً حتى دق جرس التلفون. عندما دق رابع مرة رفعت السماعة بنفسي. منذ مدة ينام زوجي في غرفة عمله. لم يأت صوت في البداية، ثم قالت واحدة من الجانب الآخر: "سلام!"

قلت: "عليك السلام!... حضرتك؟!"

قالت: "ألا تذكرينني؟"

إلى أن قالت "خياطة مليحة"، قلت: "نعم، نعم، كيف حالك؟"

قالت: "شكراً"؛ ثم أردفت: "أيمكن أن أراك غداً في مكان ما؟"

كان صوتها يرتعش. تعجبت. قلت: "شرِّفيني بالمجيء هنا".

قالت: "لا. إن لم يكن ثمة مانع فلنتواعد خارجاً".

عندما دخلت المقهى رأيتها جالسة عند طاولة. كانت تدخن. ما أن رأتني حتى ضغطت سيجارتها في منفضة السجائر ونهضت. هذه المرة لم أقبلها. طلبت أنا شاياً أيضاً. قالت:

- أنت كاتبة، أليس كذلك؟

قلت: "هَيْ.. كانت أستاذتي تقول دائماً إنه يشبه إنشاء فتيات المدارس".

قالت: "أنا لست كاتبة. يعني أنني لا أعرف الكتابة أصلاً. ولكن، عندي قصة أتمنى أن تكتبيها. أنا لا أقدر. أُتلفها".

قلت: "ولكن، لماذا أنا؟"

ولعت الزناد وأشعلت سيجارتها. قالت: "قصة امرأة تـ..ـعشق صبياً في الثانية عشرة.»

قلت: "الثانية عشرة؟!"

لم تكن تنظر إلي. كانت تفرك سيجارتها بحافة المنضدة. قالت: "نعم. المرأة في حدود الأربعين. يعني في سننا أنا وأنت".

قلت: "ولكن، أيمكن؟!"، وضحكتُ. قلت: "ما شكل الفتى أصلاً؟"

راحت تفكر. قالت: "يعني.. له حاجبان أسودان مقوسان، وأهداب طويلة. طويل جداً... نحيل... عندما يمشي، كأنما".

رأيت عينيها قد احمرتا. قالت: "المرأة تجر الصبي بذرائع مختلفة إلى بيتها".

قلت: "حسناً؟!"

قالت: "لا أعرف الباقي. تخيلي أنت الباقي. مثلاً المرأة منذ أن عشقت الصبي تختلف مع زوجها. تريد أن تنفصل عن زوجها. أتفهمين؟ بسبب ذلك الصبي!".

كانت يداها ترتعشان. جفت شفتها. غمست أصبعها في فنجان الشاي ومسحته بشفتها. قلت: "وإن لم أستطع، فماذا؟"

لم تقل شيئاً. قلت: "لكن... عجيب جداً. أليس كذلك؟"

قالت: "ينبغي أن تفهميها. اكتبي امرأة منذ أن عشقت لم تلقط حاجبيها!... صارت تربط شعرها على طريقة البنات، تلبس أساور زائفة".

ابتسمت بعينين دامعتين، ولكن وجهها ركبه الهم سريعاً. قالت: "وكل ذلك بسبب ذلك الفتى أيضاً".

جئت من أمام المقهى إلى البيت. كنت أقول لنفسي لا بد أنها قرأت شيئاً، موضوعاً بقلمي فأعجبها. ولا بد أنها أخذت رقم تلفوني من مليحة...

في الأسبوع التالي ذهبت في طريقي كي آخذ لباسي. كنت أدري أنني ربما أراها هناك ثانية. كان يوم ثلاثاء، وكان ينبغي أن أذهب إلى البيت سريعاً.

فتحت مليحة الباب. كان فمها مملوءاً إبراً. قلت: "هذا خطر".

قالت: "حتى الآن بلعت مئة منها ولم يحصل شيء".

قلت: "حقاً، ما أخبار زبونتك تلك؟"

قالت: "من؟"

قلت: "تلك التي كانت هنا في المرة السابقة. عند الباب... عرَّفتِنا ببعضنا؟"

قالت: "لا أذكر".

قلت: "إيه، كانت زبونتك. الثلاثاء الماضي".

قالت: "ها.. أنا لم أكن أعرفها. كانت المرة الأولى التي تأتي فيها إلى هنا. ولباسها أيضاً كان جاهزاً إلا أنها لم تأت لتأخذه".

قلت: "وماذا عن لباسي؟ هل أصبح جاهزاً؟"

ذهبت فجاءت به. كان ورقاً أسمر اللون ملفوفاً حوله كي لا يتسخ. قالت: "البسي لأرى إن كان على المقاس".

لكن، عندما فتحت الورقة عنه وجدت أنها جلبت لباساً خطأً. ضحكتُ. قلت: "ليس هذا لباسي".

قالت: "لا تتظارفي. البسيه كي أرى كيف هو على بدنك"..

قلت: "صدقيني. هذا ليس ثوبي! لم يكن قماشي بهذا اللون، أنت تعرفين، أنا لا ألبس لباساً مورداً بهذا الشكل".

ألبستني إياه بالقوة. كان ضيقاً علي. أخذت يدي وسحبتني إلى أمام المرآة. عندما رأيت نفسي لم أعرفها. كان أبيض كله وبه زهور بنفسجية دقيقة...

قالت: "يليق عليك كثيراً. صرت قطعة لذيذة، لمن يحب. هل ياقته جيدة؟"

قلت: "مقدَّمه هذا مفتوح جداً!"

قالت: "أنت قلت إنك تريدين ياقة مدورة!"

صرت على وشك البكاء. رفعت يدي عالياً وقلت: "بالله عليك اخلعي هذا الثوب عن بدني".

قالت: "فلأعلِّمه بالإبرة. ينبغي أن أضيِّقه قليلاً من هذا الجانب".

فجأة وقع بصري على قماشي. أخرجْته سريعاً. قلت: "هاك. هذا لباسي!"

قالت: "أمعلوم ما تقولين؟! هذا يخص زبونة. من المقرر أن تأتي اليوم لتأخذه".

قلت: "لكن هذا كان قماشي. انظري كم هو عديم البريق. وزهوره أيضاً رمادية... انظري ياقته... إنكليزية"..

قالت: «قولي أنت، عسى ألا يكون صاحبك قال إن الأسود يليق عليك أكثر. ها؟ أيتها البنت العاقلة، إن هذا القميص عريض عليك أصلاً. انظري".

فتحتْ القميص وأمسكتْه أمامي. انبثقت دموعي. قلت: "والله هذا قميصي"..

مهما قلت لها لم ينفع. لفت القميص مرة أخرى بالورق وأعطتني إياه. قالت: "مبارك عليك"، وقبلتني.

الآن أضع هذا القميص الأبيض المورد كل يوم أمامي وأنظر إليه. أدري أنه قميص تلك المرأة: امرأة الثلاثاءات. كم قماشه خفيف. عندما تلبسه في الشمس لا بد أن انحناء صدرها وخطي فخذيها يشاهدان في النور.

ركبني أمس وسواس أن ألبسه. أمسكته أمام صدري ووقفت أمام المرآة. كأنني لم أكن نفسي!... ما أن سمعت صوت الباب حتى علقته ثانية في المكان ذاته.

كلما أنظر إليه أقول لنفسي من يصدق كلامي؟ عندما أذكر أحداث أيام الثلاثاء هذه لأيٍّ كان يرفعون، ولا بد، أكتافهم ويقولون: "لا أدري.. ربما.. عجيب!"

يأتي صوت ابنتي في الممر. أزيح الملاءة جانباً وأنزل عن السرير. من شق الباب، أرى صديقها يودعها.. "في أمان الله"...

غسان حمدان  

  • ولد في بغداد سنة 1973، وأتم دراسته في بغداد وطهران.
  • يعمل مدرساً، وكاتباً، ومترجماً، وإعلامياً، وباحثاً في الشؤون الإيرانية.
  • أصدر رواية باسم "ريمورا" عام 2015. ترجم عشرات الكتب الأدبية من الفارسية إلى العربية وبالعكس، نشر منها: "وحده الصوت يبقى" لـفروغ فرخزاد" (دار المدى - 2003)، "المسافر" لـ"سهراب سبهري" (وزارة الثقافة السورية - 2007)، "ما أزال أفكر بذلك الغراب" لـ"أحمد شاملو" (وزارة الثقافة السورية - 2009)، "الزوج الأميركي" لـ"جلال آل أحمد" (وزارة الثقافة السورية – الهيئة العامة للكتاب -...

وهو يعكف حالياً على إعداد قاموس فارسي عربي ضخم... وكذلك مجموعة قصصية باللغة العربية. وترجم عدداً من الروايات والمجموعات الشعرية العربية إلى الفارسية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024