"أكاذيب صغيرة في كل مكان": الوهم الأميركي

محمد صبحي

الإثنين 2020/07/13
عادة ما تكون السلاسل التلفزيونية الأميركية العائلية معقلا برجوازياً، سواء من ناحية الموضوعات والبيئات التي تتناولها أو جمهورها المستهدف. لكن سلسلة "أكاذيب صغيرة في كل مكان" (ليتل فايرز إيفري وير) مختلفة كثيراً عن تلك الصورة النمطية. إذا شاهدت السلسلة بالتوازي مع الأخبار حول الاحتجاجات الحالية في الولايات المتحدة، فإن عنوانها يكتسب قوة رمزية على نحوٍ غير متوقع: في كل مكان مصدر حريق وممكنات اشتعال أوضاع. إجابة سؤال مَن أشعل النيران لا محلّ لها هنا، ولكن يبرز سؤال آخر أكثر أهمية حول المسؤول الأول عن حرق بيت العائلة الأميركية السعيدة، بما هو مجاز التعايش الأميركي الفاشل.

هل نبَتَ هذا كله فجأة؟ أين بالضبط حجر أساس الخلل؟ وما الكامن وراء المفاهيم التي يُستشهَد بها في كثير من النقاشات الحالية حول "العنصرية الهيكلية" و"عمى الألوان" و"التفوق الأبيض"؟ إلى أي مدى لا يزال المجتمع الأميركي بعيداً من تكافؤ الفرص والحقوق المتساوية للسكان الأميركيين من أصل أفريقي؟ وما مدى جذور الكراهية والاستياء؟ على أي مهتم بالإجابات أن يتعمّق ويحلّل الواقع اليومي وأسلوب حياة مجتمع يبدو ظاهرياً أكثر حداثة وليبرالية واستنارة مما هو عليه في الواقع. وهنا تأتي أهمية "ليتل فايرز إيفري وير" المتمركز في قلبها السؤال الاجتماعي وانشغال ببحث ممكنات الانهيار المجتمعي وشرعنة التمييز العنصري.

استنتاجات السلسلة جديرة بالتوقف عندها وتأملها، لأن مسائلة "الذنب الأبيض" ونقده كان في السابق غريباً على "نوع" السلسلة التلفزيونية العائلية الأميركية. مع الكثير من الجهد تقول السلسلة، ضمن ما تقوله، كيف أن توهُّم الليبراليين البيض يحقّق المساواة الفعلية في بيئاتهم يُبقي نظرائهم، من الأقليات الأخرى، على مسافة منهم ويعيق سعيهم للسعادة.

اتفاق بالحروف الأولى
"يقول رجال الإطفاء أنه عندما دخلوا كانت هناك حرائق صغيرة في كل مكان"، يكرّر ضابط الشرطة وصفاً مبهماً للحادث إلى مالكيّ بيت يحترق في الخلفية. تجلس إيلينا ريتشاردسون (ريس ويذرسبون)، في الجزء الخلفي من سيارة إسعاف، لا تستطيع تصديق ما تراه عيناها. ألسنة اللهب تعمي أي انعكاس. تلك الحرائق الصغيرة المتناثرة في جميع أنحاء غرف بيتها الكبير الحبيب في "شيكر هايتس"، الضاحية الغنية في مدينة كليفلاند، حوّلت حلمها الذهبي إلى جبلٍ من رماد. احتمالية تورُّط ابنتها الصغرى إيزي (ميغان ستوت)، تطفو في الهواء مثل ذلك الدخان الكثيف المنبعث أمام ناظريها.

إيزي هي الكبش الضال بين أبنائها، الابنة المتمردة، فهل تكون هي الجاني الحقيقي لمثل هذه الكارثة؟

تضيع عيون إيلينا في كثافة السماء الرمادية من أثر الدخان ونُذر الشؤم التي تحتلّها. أطفالها الآخرون، ليكسي (جاد بيتي جون) وتريب (جوردان إلزاس) ومودي (جافين لويس)، الأكبر سنّاً والأكثر تحملاً للمسؤولية، ينتظرون حصّتهم من الأسئلة في مكانهم داخل إحدى السيارات المتوقفة على جانب الطريق. فيما يحاول زوجها بيل ريتشاردسون (جوشوا جاكسون) طمأنتها دون جدوى. على بعد بضع بنايات فقط من منزلها المحترق في "شيكر هايتس" نفسها، يكتنز بيت آخر بالإجابات.

بكشف السلسلة لنهايتها منذ المشهد الأول، تعقد مع متفرجيها ما يشبه توقيعا بالحروف الأولى، إذ تسمح بتوجيه اهتمامه طوال الحلقات لفهم أسباب التداعي بدلا من الانهماك الرخيص وراء حلّ أحجية مُشعل الحريق. يعرف المرء منذ البداية ما سيبقى في النهاية: دخان ورماد. لكن ثمة طريق شاقة وطويلة علينا ارتيادها لنصل إلى هنا. معاينة التصدّعات الاجتماعية ومراقبة نماء الحواجز الفاصلة ومتابعة تصاعد التوتر، هي مهمة كل متفرّج، ليرى، بشعورٍ غير مريح إطلاقاً، كيف تنتشر الحرائق الصغيرة ببطء وكيف تستحكم دائرة الانهيار.


مسار ممتد
بداية سلسلة "ليتل فايرز إيفري وير" تسير على خطى الإنتاجات المرموقة لـ "هالو صانشاين"، شركة الإنتاج التي تقودها ريس ويذرسبون. بدأ الطريق بالسلسلة الناجحة" بيغ ليتل لايز"، من بطولة ريس ويذرسبون ونيكول كيدمان ولورا ديرن وشايلين وودلي، وفي الموسم الثاني من السلسلة، الأقل نجاحاً، شاركت ميريل ستريب في البطولة. ثم تبع ذلك" ذي مورنينغ شو"، المنتَجة لصالح منصّة آبل تي في بلس، حيث تشاركت ويذرسبون البطولة مع جينيفر آنيستون.

كلا السلسلتين مستوحى من كتابين ضمن الأكثر مبيعاً، الأولى من رواية بالعنوان نفسه للكاتبة ليان مورياتي والثانية من كتاب غير روائي بعنوان "عزّ النهار: داخل العالم القاتل للتلفزيون الصباحي" للكاتب الصحفي بريان ستيلر؛ ما ضمن مكانة وحظوة جماهيرية للعملين من قبل أن يُعرضا حتى، إلى جانب الأسماء التمثيلية اللامعة المشاركة فيهما بالطبع...

بزوغ ويذرسبون كمنتجة تقف وراء أعمال تلفزيونية ناجحة، مثير للإعجاب ويفتح الباب دون قصد لعقد المقارنات مع باقي ممثلات جيلها. ففضلا عن مساهمة حماسها لإنجاز مشاريع تلفزيونية في تعزيز مسار شخصيتها السينمائية، وإمدادها بأدوار لافتة تضيف إلى مسيرتها التمثيلية؛ يعطيها هذا النهج الانتقائي والنجاح المرافق له هالةً تليق بظاهرة معاصرة لم يكن في مسيرتها التمثيلية السابقة ما ينبئ عنها.

لا تختلف حالة" ليتل فايرز" عن الصيغة الرئيسية لإنتاجات هالو صَانشاين، باستنادها إلى رواية معروفة لمؤلفتها سيليست إنغ، تدور أحداثها في مسقط رأسها ،"شيكر هايتس" في ولاية أوهايو، خلال تسعينيات القرن الماضي. شيكر هايتس هي أول ضاحية حضرية مخطّطة في أمريكا، وبالتالي هي أشبه بنموذج أعمال احتذته جميع الضواحي والمجتمعات العمرانية ذات البوابات الأنيقة التي ظهرت لاحقًا واستعمرتها العوائل الغنية من الطبقات البيضاء المتوسطة والعليا.

تتمحوّر الرواية حول أسرتين من عِرقين مختلفين يتقاطع مسارهما عن طريق أطفالهما. البداية تأتي من لقاء غير متوقع بين إيلينا ريتشاردسون وميا وارن (كيري واشنطن)، تحضران هنا كممثلتان لعالمين متعارضين. من هنا يأتي الاضطراب الذي يفعل أفاعيله في بنية الأسرتين ويهزّ أسس تلك الضاحية الأميركية المثالية، المخطط لها بتفصيل وعناية كبيرين والمصممة كنموذج للتعايش في عالم خالٍ من الصراع أو التحيّزات.

يوفّر الوجود التأمّلي لشخصية واشنطن أفضل نقطة تضاد ممكنة لحِدّة شخصية ويذرسبون، في مبارزة تتدرَّج حدّتها، بمثل نمو العلاقة بين الأسرتين، في عُقدة درامية تقتات من أسرار الماضي وتطورات الحاضر، لتكشف النقاب عن الحواف المظلمة للشخصيات ومُثُلها العائلية والأمومية. في المقابل، تعود ويذرسبون إلى قمة لياقتها التمثيلية متكئة على إدراك واعٍ بالجغرافيا السيكولوجية لشخصيتها، كوريثة مثالية لشخصية مادلين التي أدّتها في "بيغ ليتل لايز"، بمحدداتها المتعاكسة والعصية على القبض: النوايا الحسنة الغامضة والمُضبَّبة، ابتسامة الهيستيريا الوديعة، اللطف المزعج، التبرير الذاتي كميكانيزم حمائي ضد الصدمات.

مقدّمات مثالية
تبدأ رواية سيليست إنغ بالتكتم النموذجي الذي يغذّي كل شائعة. كما لو تهمس في آذاننا، تخبرنا إنه في صيف 1997، عرف الجميع أن إيزابيل، الإبنة الصغرى لآل ريتشاردسون، فقدت عقلها وأضرمت النار في منزل العائلة. ثم تذكّرنا بأن تلك النميمة الجديدة قد حلّت محلّ واحدة أخرى ذاع صيتها ولاكتها الألسنة خلال فصل الربيع، تلك المتعلّقة بمصير الطفلة ميرابيل ماكولو - أو ماي لينغ تشو، بحسب موقف المتكلم من طرفي القضية - المتنازع عليها بين عائلتها بالتبنّي ووالدتها البيولوجية. نثر إنغ يضعنا في هذا الجو من اللغط الممتد على طول الأرصفة وزوايا تلك الضواحي، المتحرك في طوابير السوبر ماركت والدردشات بين الجيران الفضوليين.

في حديث للكاتبة تقول إن "الكتابة عن مسقط رأسها يشبه إلى حد ما الكتابة عن أحد الأقارب. حيث ترى كل الأشياء العظيمة المتعلقة بهم، وتحبهم كثيرا، ومع ذلك فأنت تعرف أيضا تلاعبهم وأخطائهم". نظرتها في الرواية تنمّ عن خبرة شخص عاش في ذلك المكان منذ طفولته، ويعرف تاريخه وزواياه وشقوقه. هذا التجوال في ذلك المكان-المثال، شيكر هايتس، إلى جانب كونه نظرة فاحصة على سنوات المراهقة والنضوج لكاتبته، يعمل أيضا كبورتريه محفّز للتأمل أكثر في أحد أطوار أمريكا الانتقالية، في خضم حقبة بيل كلينتون، بالتقاطع مع مساءلة صدق وموثوقية خطاب تصالحي ينتهي به الحال لفضح الجوانب الأكثر تعقيدا من هذا التعايش المزعوم.

آل ريتشاردسون عائلة بيضاء تنتمي للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة. الأب محامٍ مرموق، والأم مقيمة من الجيل الثالث في "شيكر هايتس" وصحفية بدوام جزئي في الجريدة المحلية. لهما أطفال أربعة في سنوات الدراسة المختلفة، أكبرهم في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. فيها تتكثَّف جميع موضوعات ذلك الكون: الزوج الصالح والأبّ الجيّد المنغمس في شؤونه، الأمّ المهووسة بالسيطرة والتنظيم مع استراتيجية واضحة في هندسة أبنائها وفقا لرغباتها حسنة النية بالضرورة. الأطفال الذكور، أحدهما خفيف ومحبوب وسط زملائه، والآخر خجول ومتأمّل، أما الفتيات، فتحولت إحداهما إلى نسخة طبق الأصل من الأمّ، والأخرى، متمرّدة حرونٌ مثل عدو يخرج من مرآتك.

تصل ميا وابنتها بيرل (ليكسي آندروود) إلى هذه الحياة المريحة المتوقعة، سكّان رُحل وسيلتهم وسريرهم هي سيارة فولكس فاجن صغيرة متهالكة تسافر عبر القرى والطرق في البلاد. ميا مصوِّرة فنية، ماضيها مشوب بأسرار تصونها بالتنقل طوال الوقت وتقديم التنازلات، عاشت لابنتها وترفض أن تخبرها بهوية والدها.

انتهاء المطاف بميا وبيرل كمستأجرين لمنزل صغير في شيكر هايتس، البيت الثاني والقديم لآل ريتشاردسون، هو مفتاح إنغ لإحكام دائرة تفاعلات شخصياتها، بعد تجاوز مثالية المقدمات الترحيبية، لفضّ دقائق عيوب وتصدعات لا تظهر في الكتيبات التعريفية بل تُكتشف على طول طريق تنظمها التوترات.

وهم التعايش الأميركي
اهتمام إنغ الرئيسي هو التشكيك في المُثُل المهيمنة على تصوُّر ذلك المجتمع لنفسه، كمجتمع مخطَط مثالي، غايته الإيفاء بوعد الحياة الرغدة الهادئة الخالية من المنغصات. مجتمع حضري صُمّم بطريقة مصطنعة، على أساس نموذج أخلاقي مصطنع هو الآخر يتمثّل في تعايش مفترض سلمي ومنظَّم لتأسيس مجتمع موحَّد العِرق. فهي بحسب دعاياتها الرسمية، تشتهر بشوارعها الأنيقة التي تكتنفها الأشجار وبيوتها الفارهة، ويُعزى إليها الفضل في ريادة السعي إلى تأسيس مجتمع موحَّد العِرق بشكلٍ حقيقي. وهي أيضا مدينة فاضلة في الضواحي، حيث يمكن لجميع الأعراق العيش بإنسجام، وما من مكان تجد فيه الوعي بالإختلاف العرقي أكثر وضوحا من المدارس العامة، حيث تُدرس كورسات تخصّ الحساسية بالإختلاف العرقي وتشجع على ممارسة جميع أنواع الرياضة بناءً على اتساق عرقي.

مع ذلك، منذ البداية تتوقع إنغ الحريق، وتدفع السرد ناحيته، عبر طرق متوازية ومتقاطعة تتابع النزاع حول أمومة طفل هَجَرته أمّه الصينية المهاجَرة غير الشرعية تحت وطأة الجوع والفقر، وباستقصاء الحقائق وراء الواجهات الزائفة. وهذا هو السبب في ما يبدو عليه بناء الرواية، والسلسلة من ورائها، من ركاكة ومباشرة في إبراز الأضداد وتنظيم الصراع اعتمادا على قطع مونتاجي صريح، للاستثمار في فداحة اختلاف ما هو ظاهر/بسيط ومزيَّف عن ما هو مخفي/معقَّد ولا يمكن إصلاحه، وصولا بالنسق إلى المصير الختامي للانفجارات الداخلية العديدة.

من ناحية أخرى، اعتمد عمل ليز تيغيلار (المنتجة التنفيذية للسلسلة ومعدّتها للتلفزيون) في تكييف الرواية للتلفزيون على تعميق تعقيدات الشخصيات ومدّ بعض الخطوط الدرامية وتحفيز الوعي بالمسافة الزمنية التي تفصل نهاية التسعينات عن وقتنا الراهن. فعلى الرغم من حفاظ السلسلة على صورة ذلك العقد، كما تتجلَّى في موسيقى سبايس جيرلز، وكلاسيكيات نوادي الفيديو، والملابس، والتحيّزات الجنسية؛ تحرّر السلسلة نفسها من تلك النظرة المقرّبة التي تقترحها إنغ عبر إرساء شخصياتها في عالم من "الوجود الموضوعي"، في ما وراء الملاحظة وخارج الوعي الإنساني.

بعبارة أخرى، السلسلة أنجح من أصلها الأدبي في محاولتها الحفر عميقا لتظهير كذبة التعايش الأميركي وملامسة القلب المظلم لفكرة الأمومة، عبر تسبيب أفعال شخصياتها وطبخ فوراتها العاطفية وسبك توتر وحركية لعبة البينغ بونغ الدائرة على مدى الثمان حلقات، في قالب ميلودرامي يذكّر كثيرا بالملاحم البكائية لسينما الخمسينيات الأميركية، الأمر الذي يخلّف أحيانا بعض الأضرار الجانبية كأن يغدو ذلك الكريشندو أو تلك الذروة مفتعلة قليلا، مثل لحنٍ مُرهَق يخرج من أوتار عازف متحمّس أكثر من اللازم.

فراديس الكرتون
واحد من أكثر التغييرات التي أحدثتها تيغلار إثارة للاهتمام هي بناء شخصية ميا وارِن، من غموضٍ والتباس أكثر إزعاجا وإلحاحا مما يحدس به الدور حين يسمع به المرء لأول مرة. وهذه الفاعلية ليست فقط بسبب أداء واشنطن، ولكن أيضا نتيجة عديد المواقف التي تحيك سرّا توترا خفيا في علاقتها مع إيلينا، فضلا عن طرقها المعاكسة لفهم الحرية والمسؤولية، رغباتها وأمومتها. إذا كان سلوك ميا في الرواية يقوده ذنبٌ قديم لا يتوقف عن ملاحقتها، يغريها بمنح ابنتها بيرل الاستقرار الذي افتقرت إليه في طفولتها؛ ففي السلسلة يُداخل هذا الدافع رواح ومجيء داخلي مستمر ويتشابك فيه الذنب بثورة حزينة، والذي يشكّل حركاتها ويحفّز ردود أفعالها.

يتضح ذلك في مشهدين، الأول عندما عرضت إيلينا عليها العمل في منزلها كـ"مدبرة منزل"، والثاني في مشاركتها المطرَّزة بالتوفيق في نادي الكتاب الذي تقيمه إيلينا في منزلها.

في البداية، كانت مقاومتها أكثر وضوحا مما هي في الرواية، التي فيها تقبل ميا العرض على مضض من أجل سعادة ابنتها المنبهرة بحياة عائلة ريتشاردسون. وفي الثاني، غير الموجود أصلاً في رواية إنغ، تقدّم ميا تفسيرا جزلاً وتخريبيا في آن لمداخلة إيلينا المتواضعة في تعليقها على الكتاب قيد المناقشة – "مونولوجات المهبل"، وهي مسرحية لإيف إنسلر، تأتي هنا كإرهاصة سابقة لتوسّع النقاش النَسَوي كما نشهده حالياً – كاشفا عن ذكاء ماكر لشخصيتها، القادرة على محاربة "قديستها الحارسة" بشروطها الخاصة، والإعلان في الوقت نفسه عن خصوصية وضعها.

بهذا المعنى، فالانعطاف الدرامي الذي تطبخه السلسلة عبر الاستثمار في شخصية إيزي، الابنة الصغرى لآل ريتشاردسون، ينير مساحة إضافية لشرح أهمية العمل وتوفيق اختياراته وتزويدنا بممثلة صغيرة تنبيء بمستقبل واعد.

تولد الشرارة الأولى للنار التي ستأكل كل شيء من غورٍ أعمق من تمرُّد إيزي بحكم سنّها وفوارق الأجيال، والذي قادها في سن الرابعة عشر لتجاهل أوامر والدتها وتعاليمها. يعشّش أصل تمرّدها في سعيها الواعي ضد كل ما تمثله والدتها، من أفكارها حول الأمومة والجنس والنظام الأخلاقي، إلى مسلكها اللاواعي في تجسيد الصواب السياسي.

تتعلّم إيزي العزف على الكمان، وهي ماهرة في ذلك بالفعل. في حفلٍ موسيقي تشارك فيه مع زملائها، تختار إيزي طريقة واضحة لإعلان تمرّدها على والدتها التي تجبرها على ارتداء زيّ معين: تتوقف عن العزف، وتنظر للحضور، على جبينها، كتبت "لا أريد أن أكون دمية أحد". ومن هنا وُلد تحالفها مع ميا، تحالف لا يمكن علاجه أو تصحيحه، يعضده شغفهما بالفنّ كتعبير فريد عن حريتهما المنشودة ووسيط يودعانه غضبهما وثورتهما على العالم.

وإذا كانت الرواية يسيطر عليها الاستعارة القديمة حول نظيرين يطمح واحدهما في مبادلة الآخر عيشه وحياته، في أن بيرل تتوق إلى إيلينا في كل شيء حُرمت منه في طفولتها المتجوّلة، بينما إيزي تسعى للتمسّك بميا وبكل ما تمثّله في حياتها؛ ففي السلسلة ينطلق صدى جديد لتلك الاستعارة الكلاسيكية، في أخوة صامتة بين الأُمّين والبنتين اللواتي تتقاطع مساراتهن بشكل يقودنا، كمشاهدين، إلى تخيُّل حياة أخرى لهن.

مروحة أفكار شائكة
تستبدل الرواية تطوُّر العلاقة بين آل ريتشاردسون والمستأجرين الجدد بدعوى قضائية موازية. إذ تبنّت صديقة إلينا وزوجها، ليندا ومارك ماكولو، طفلة من أصل صيني عُثر عليها أمام محطة إطفاء ذات ليلة شتوية. مدفوعين بإحباط عدم القدرة على الإنجاب رغم المحاولات المتكررة، يتعلّق الزوجان بالطفلة التي ملئت حياتهما. لكن، بظهور الأم الحقيقية للطفلة مطالبة بحضانة ابنتها، بعد اضطرارها التخلّي عنها تحت وطاة حالة من الكرب واليأس، ينشأ نزاع يصبّ بدوره الزيت على المواجهة بين إيلينا وميا، ويفلت عقال أفكار وأسئلة شائكة حول معنى الأمومة وحدود الرغبة الأمومية وإمكانيات الاختيار المتاحة للمرأة في هذا الصدد.

تمزج السلسلة هذه المعضلة القانونية والأخلاقية مع حياة الشخصيات نفسها، حبلى بتعارض ولاءاتهم والتزاماتهم العاطفية، وفي الوقت نفسه تتمكن من إثارة قضية الهجرة التي لا يمكن إنكار إلحاحها في الولايات المتحدة.

أخيرًا، من المثير للاهتمام كيف تكمل ريس ويذرسبون بهذه الشخصية المستوردة من نصّ أدبي مسار كل واحدة من شخصياتها. في طموحاتها الخادعة هوسٌ يتاخم سيكوباتية شخصيتها في "كرول إنتِنشينز" (1999)، وفي وصايتها السلطوية الحريصة على التحقق من تنفيذها بالفكاهة حيناً والسخافة أحياناً شيء من شخصية إيلي وودز في "ليجالي بلوند" (2001)، وفي مثالية نظرتها للحب والرغبة الجنسية تذكّر كثيرا بدورها في "سويت هوم آلاباما"  (2002)، حتى في أدوارها الأخيرة والناضجة قبل كل من "بيغ ليتل لايز" و"ذي مورنينغ شو"، تستبطن ظلالاً كابية خلف رباطة الجأش والكمال الباديين.

"ليتل فايرز إيفري وير" خطوة متمّمة في دراسات الشخصية التي تؤكد من جديد ويذرسبون تمكُّنها الكامل من تجسيدها كممثلة، وقدرتها على تظهيرها بصفاء وشفافية بقدر ما فيها من قسوة وصلابة. هذه المرأة نتاج ثقافة الخصوصية الأميركية القائمة على المنافسة وإثبات الذات ونفيها في الوقت نفسه، المعلّقة في سقّالات ضعفها واستبداد محيطٍ لا يرحم، الممزقة من أعماق جوهرها برواسب خبيثة تفسد كل نيّة طيبة.

تمكّنت ويذرسبون، وهي الآن نجمة إنتاج تلفزيوني، من الكشف عن نفسها في كل مشروع من مشاريعها التي تتولّى بطولتها، مع أخريات تكافئنها مهارة وبراعة بالطبع، كخير دليل على أن نيران متناثرة صغيرة قادرة على إحداث أعظم الحرائق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024