تراجيديا التحرر مع إيما غولدمان

روجيه عوطة

الجمعة 2020/07/03
تواظب دار "بايو-payot" من وقت إلى آخر على ترجمة نصوص، لم تكن قد صدرت بالفرنسية من قبل، أو كانت قد صدرت بها لكن من دون دقة. فها هي اليوم، وعبر مجموعة "المكتبة الصغيرة"، تتيح ترجمة نصين لإيما غولدمان، اي "تراجيديا تحرر النساء"، و"حق النساء في التصويت"، وهذا، في كتاب حمل عنوان "في حرية النساء". على أن النص الأول كان قد نشر في العدد الاول مجلة "mother earth" في العام 1906، وهي مجلة اسستها وأطلقتها غولدمان نفسها، أما النص الثاني، فقد تضمنه كتابها "أنرشية ومحاولات أخرى"، الذي نشرته في العام 1910.


ميزة نصّي غولدمان راهنيتهما، وهما يندرجان في سياق إطاحة النسوية المزيفة، أي تلك التي صارت مجرد مشروع هوياتي، تقدم للأنظمة مقولاتها من أجل الدفاع عن سلطاتها وحواشيها. لكن هذين النصين يتخطيان راهنيتهما، يتخطيان ذلك السياق، ليكونا بمثابة وثيقة عما كانته كاتبتهما، المناضلة والمنظرة غولدمان. في الواقع لا يمكن فصل راهنية النصين عن توثيقهما، عما يمكن وصفه بروعة غولدمان، التي تتشكل أساساً من النباهة والإصرار والاقتدار، بحيث أن راهنيتهما ترتبط بتلك الروعة، وتتطابق معها.

ففي بداية القرن المنصرم، وجدت غولدمان أن تحرر النساء ينتابه ضرب من التراجيديا، ومرده اعتقاد بأنه تحقق، أو بأنه وجد سبيله آنذاك إلى التحقق. وهذا، بانطلاقه نحو عدد من البغيات، التي تتعلق بحقوق وجودهن في الفضاء العام إذا صح التعبير، وعلى رأسها، الحق في العمل، داخل كل المجالات ولأجل كل المراتب، والحق في الاقتراع. فعلى أساس الاستحصال على هذه الحقوق، ساد في ذلك التحرر معتقد بأنه ليس ببعيد عن تمامه، لا بل إنه وصل اليه، بمعنى آخر، أن النساء، اللواتي لطالما ناضلن فيه، قد بدأن بالتخلص من العبودية والقمع.

تعترض غولدمان على ذلك المعتقد، وترى أن "انتصارات التحرر" ليست بانتصارات. فالمساواة الاقتراعية لم تؤد الى تحرير السياسة، التي بقيت رجاء لطبقة اقتصادية ولمصالحها، دون غيرها. أما المساواة المهنية، فلم تؤد سوى الى تعريض النساء للسوق، لقوانينه الظلامية، التي تدمر حيواتها بالتنافس والتربح والتنصب. على هذا النحو، "انتصارات التحرر"، وإن كانت، وفي لحظة ما، بمثابة خطوات رئيسة في سيرورة الانعتاق، غير أنها لم تعد كافية، بل صارت عوائق في هذه السيرورة وأمامها. بالتالي، "في حال رغبة النساء في أن يتحررن، لا مناص لهن من التحرر من حركة التحرر ذاتها"، لكي لا يبقى انعتاقهن مطبوعاً بالتراجيديا، ولكي لا يراوح مكانه كمعركة حقوقية.

في الواقع، تحدد غولدمان مقلباً مختلفاً لتراجيديا التحرر، وهو كونه سرعان ما تعود وتبرز فيه ترسبات من الآداب المجتمعية الطاغية، التي تعدّ، وفي أصلها الذكوري والبرجوازي، ضد النساء، وضد وجودهن. في نتيجة ذلك، تلاحظ غولدمان أن التحرر النسوي مخترق من قبل الكثير من القائلات والقائلين به، بحيث، وبالتوازي مع قولهم هذا، فهم يمضون الى ممارسة خلافه، تكريساً لتلك الآداب، ولمجتمعها، أو بالأحرى لطبقتها. وفي هذه الجهة، تشير غولدمان الى كون التحرر، وبفعل اختراقه ذلك، يغدو متصفاً بما تدعوه اصطناعيته، التي تقتل روح النساء، وتمنعهن عن التنضر، عن التجدد على ينابيع الحياة. فتراجيديا التحرر هي مجزرة روحية بحقهن، ولهذا، ضروري توقيفها.

تشدد غولدمان، وفي المطاف عينه، على أهمية أن يتمحور التحرر، ولكي يتفلت من التراجيديا تلك، حول الانتهاء من كل المعتقدات القمعية، التي تسود فيه، وتقلبه من تحرر الى إعادة تقييد للنساء بأشكال حديثة من الخوف والانعزال والترويض. فلا بد للنساء أن يتفلتن  من الأفكار، التي تجدها غولدمان باطلة، كتلك التي تفضي على سبيل المثال لا الحصر، الى كون والحب والتأمّه (التحول الى أمهات) لا يجتمعان مع التحرر، انما يتطابقان مع الخضوع فقط، أو إلى ثنائية امرأة\رجل بمعنى أن النساء والرجال ينتمون الى عالمين متناقضين. "فمن أجل أن تغدو العلاقة الجيدة بين النساء والرجال ممكنة، يلزم التخلي عن فكرة المسيطر والمسيطر عليه" بغاية التركيز على "وهب الذات لعيش حياة غنية وكثيفة والاستحالة الى كينونة أفضل".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024