تقديس القاتل

محمد حجيري

الأربعاء 2020/08/26
تقديس القتلة لا ينتهي في العالم عموماً والمشرق خصوصاً، سواء كان القاتل الفردي الذي ينفذ عملية اغتيال لشخصية معتبر، أو مرتكب المجزرة بحق مجموعة من الناس الذين يختلفون معه...

صدام حسين في زمانه صعد في "السياسة البعثية" بعد تنفيذه اغتيالات ومحاولات اغتيالات، في زمانه أيضاً كان ليون تروتسكي، واحداً من الشخصيات البارزة في الحزب البلشفي، جنباً إلى جنب مع الرفيق لينين في الثورة الروسية، وكان يزايد على رفاقة في التنظير للثورة الدائمة. لكن، عقب وفاة لينين العام 1924، بدأت "شيطنة" تروتسكي واتهامه بالتآمر من قبل الرهيب جوزيف ستالين، الذي لم يكتف بنفي رفيقه العام 1929، بل أرسل له أحد عملائه ويدعى رامون ميركادير، ليقتله بفأس في المكسيك في 20 أغسطس 1940، وحذفه من صور الثورة وأُعلن رامون بطلاً سوفياتياً. هذا أبرز نموذج للجموح العقائدي والسياسي الذي يؤدي إلى قتل الشريك في السياسة. هكذا الستالينية، لا تقبل شريكاً، ولا تقبل عقلاً مغايراً، وتقدّس القاتل والقتل، وتمارس ثقافة المحو والامحاء والإلغاء والحذف.

لا تختلف ثقافة "حزب الله" عن ثقافة ستالين في جانب منها. فالسيد نواف الموسوي وضع المتهمين باغتيال الحريري في مرتبة "القديسين"، وبعضهم في بلدة حاروف الجنوبية علق لافتات للمُدان بالاغتيال ووصفه بـ"الحاج المقاوم" مفتخراً به وبأفعاله، وإطلاق صفة المقاوم عليه. أي أنه أقنوم لا يُمسّ ولا يخطئ ولا يرتكب جُرماً، بل هو فوق الأخطاء والشبهات، وقبل ذلك كان النظام الخميني يسمي شارعاً باسم خالد الاسلامبولي قاتل أنور السادات...

وتقديس القاتل يأتي كوجه من وجوه واقعنا القبلي، لا نستغرب أن يقدّس بعضهم القتلة في الوسط الاجتماعي والطائفي اللبناني، طالما أن الذين يحكمون لبنان منذ عقود، معظمهم من أمراء الحرب ورعاة مجازرها ومتاريسها وغزواتها. زاد حضورهم بسبب حروبهم أو بندقيتهم التي يمكن وصفها بـ"بندقية للإيجار". نعرفهم من سجلاتهم وزلات ألسنتهم ومناصريهم. من قتل الشاعر موسى شعيب ترقّى في حزبه، ومن اغتال طوني فرنجية صار زعيماً، ومن فجّر حسن خالد بات وزيراً، ومن فجر رينيه معوض صار وصياً على لبنان؟! 

لبنان بات قرين الاغتيال، تمارس جماعاته ما يسميه خليل أحمد خليل "التغول الطائفي" الذي أجهض ويجهض بناء الهوية الوطنية، والذي يقابله في العالم العربي التغول الاستبدادي. التغول الطائفي فتك بشخصيات بارزة في السياسي. التغول الاستبدادي فتك بالآخرين اغتيالاً، من كمال جنبلاط إلى خليل عكاوي وحسن خالد. كأن الطوائف المتغولة، والاستبداد المتغول، واسرائيل يلتقون عند نقطة سياسة الاغتيال. فإسرائيل التي لطالما احتضنها الغرب، يُعتبر القتل والإجرام جزءاً أساسياً من تدرج قادتها، سواء أولئك الذين قادوا عصابات الهاغانا مثل شارون وبيغن، أو الذين تولوا مناصب عسكرية مثل موشي دايان وايهود باراك. وإذا كان الاغتيال رافق السياسة اللبنانية على اختلاف مراحلها، فقد كان بذلك تعبيراً عن حالة عنف عامة في لبنان ومحيطه العربي و"الإسرائيلي"، وكان في الوقت نفسه حذفوراً من حذافير الحرب الأهلية، الدينية والسياسية معاً، بحسب خليل أحمد خليل. فالأصولية الصهيونية التي مأسست الاغتيال في فلسطين ومحيطها، أقامت "دولتها" على إرهاب مبرمج ومتواصل. وكانت الردود عليها من العيار نفسه، وغالباً دونه.

ولبنان في مرحلة ما بعد العام 2005، أو حتى خلال سنوات الوصاية السورية، كأنه يعيش تحت رحمة واقع يشبه ما فرضته فرقة الحشاشين وعلى رأسها الحسن الصباح، والتي كانت تقتل عن طريق الاغتيال لأهداف دينية وسياسية، وبسبب الرعب الذي كان يتركه أسلوبها في القتل الذي يوصف بالاتقان والاحترافية. وكان التدريب يقضي بأن ينال "الفدائي" من هدفه بضربة خنجر قاتلة، وبعدها يموت في شبه عملية انتحارية اليوم. وما زاد من خطر ذلك انه كان يستهدف فقط الشخصيات الكبيرة والتي لها نفوذ في الدولة. ولم يسلم من حركة الاغتيالات هذه، الجنود الأوروبيون الذين دخلوا في الحروب الصليبية إلى منطقة فلسطين والشام، وهو ما جعل الخوف من الحشاشين ينتقل الى أوروبا وينشر الرعب بين قادتها، الأمر الذي سيدفع كثيرين منهم إلى شراء ودهم عن طريق الهدايا والأموال تجنباً لخطرهم.

بعد سلسلة الاغتيالات في لبنان، ألم تتحول السياسة نوعاً من شراء الود، تجنباً للسيارات المفخخة أو كاتم الصوت؟ وزاد الطين بلة، أن كثراً من اللبنانيين شعروا بخيبة أمل بعد النطق بالحكم في المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، إذ بدا الحكم أشبه بلفلفة للقضية، وأشبه بتجهيل الفاعل رغم اتهام سليم عياش المنتمي الى "حزب الله". وشعر كثر بالخيبة لأنهم كانوا يتوقعون من المحكمة أن تشكّل رادعاً للاغتيالات السياسية، فإذا بها، بعد سنوات من المماطلة، تأتي بحكم هزيل ومترنح، ونتائج هزيلة بالية.

لبنان يعيش على وقع الاغتيالات الى أجل غير مسمى، شبح فرقة الحشاشين في يومياتنا، ما من بيت سياسي إلا وتعرض شخص فيه للاغتيال، سواء الجماعات التي تسمي نفسها سيادية أم التي تنتمي الى الممانعة، وما من مؤسسة اعلامية بارزة إلا ودفعت ثمناً، هذا الى جانب اغتيال بيروت نفسها في انفجار المرفأ... العراق الغارق في الصراعات والنزاعات، ربما يتجه إلى المسار نفسه، فيد الإجرام تطاول الناشطين والاعلاميين والسياسيين، وفي سوريا لا ننسى أن العالم كله شارك في اغتيال بلد ومجتمع.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024