سعيد فريحة.. "الأمّي" الذي نحت الحرف

محمود الزيباوي

الإثنين 2018/10/08
الحديث عن "دار الصياد" يقود تلقائيا إلى الحديث عن صاحبها ومؤسسها. هو سعيد أمين فريحة، وُلد في بيروت العام 1912، وانتقل باكراً إلى حماة، مسقط رأس والدته مريم الأم، بسبب انتشار المجاعة. حملت الأم أولادها، وانطلقت سيراً من برج حمود، وعند وصول الموكب إلى تل كلخ، تصدى له أحد الرعيان بدافع السرقة، فتصدّت له الوالدة، فغرس خنجره في كتفها، وانتهى المشوار بوفاتها. هكذا فقد سعيد فريحة والدته وشقيقه الأصغر، ووجد نفسه مسؤولاً عن إعالة نفسه وشقيقتيه الطفلتين وهو في العاشرة من عمره، وكان يومها "أمّياً"، كما تقول بطاقة الهوية الخاصة به. إلا أنه لحق الحرف، وكتب منذ كان فتى، وأصبح محرراً في صحيفتي "الراصد" و"التقدم" في حلب حيث تنبّأ له شيخ الصحافة شكري كنيدر بالنجاح. 

من حلب، راسل سعيد فريحة صحيفة "القبس" الدمشقية وصحيفة "الأحرار" البيروتية، ثم عاد إلى مسقط رأسه موزعاً نشاطه على "الأحرار" و"الحديث" و"الصحافي التائه"، وأسّس بعدها مجلة "الصياد" في 1943، مع بزوغ فجر الإستقلال. صدر العدد الأول من المجلة في أول كانون الأول/ديسمبر، واحتل الغلاف رسمٌ كاريكاتوري بريشة الرسام خليل ظهر فيه رئيس الوزراء السوري سعد الله الجابري ماشياً إلى جانب نظيره اللبناني رياض الصالح وهو يقول له: "بلاقيك سبقتني، على مهلك شوي". اتخذ مؤسس "الصياد" مكتباً له في غرفة صغيرة في بناية "الصمدي"، إلى جوار مكاتب جريدة "الحديث"، وظل هذا المكتب تابعاً للمجلة حتى بعد تأسيس "دار الصياد" في الحازمية.

في بداياتها، كانت "الصياد" مؤلفة من 24 صفحة، ثم توسع العدد إلى 32 صفحة، وقد انتقلت طباعتها إلى "دار الهلال" في القاهرة في 6 تموز 1948 مع بقاء مركز التحرير في بيروت، وذلك لضرورات فنية.

تميّزت "الصياد" بلغتها، كما تميزت بطباعتها، وكان أبرز نجومها رسّام الكاريكاتور خليل، الذي ابتدع شخصية العمّ "أبو خليل"، رمز الشعب اللبناني. كانت منذ انطلاقها لبنانية عروبية، وحمل العدد الأول منها رسالة من رئيس الجمهورية اللبنانية الشيخ بشارة الخوري ورسالة من رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي، وحيا سعيد فريحة في افتتاحيته الأولى الرئيسين، معاهداً الله "على السير بهذه المجلة الناشئة في الطريق القويم"، في "عهد السيادة العزة والاستقلال". شقّت المجلة طريقها بقوة، ووجّه صاحبها انتقادات لاذعة إلى أسرة الرئيس بشارة الخوري في الفترة الممتدة من 1946 إلى 1947، فهاجم شقيق الرئيس الملقّب بـ"السلطان"، وأصدر ملحقا دان فيه "السلطان والأسرة الحاكمة بقسوة وتهوّر لا يصدران إلا عن المجانين" بحسب تعبيره، فسُطِّرت مذكرة باعتقاله، ودخل السجن، وظهرت صوره في الصحافة وراء القضبان.

تحوّل سعيد فريحة إلى نجم من نجوم الصحافة، وشيّد "دار الصياد" عام 1954 في الحازمية، وجهّزها بمطبعة كاملة تعمل بسرعة 3500 نسخة في الساعة، وصدرت المجلة بستين صفحة، وكتب مؤسسها إلى صديقه الأديب خليل تقي الدين يوم كان سفير لبنان في موسكو: "انني أحقق، بل حقّقت فعلاً معجزة. انتهت الدار، أو قل أجمل وأحدث دار للصحافة في الشرق، وربما في الغرب. وبحسبة بسيطة، تجد ان المشروع يكلّف حتى الآن نصف مليون ليرة لبنانية". في 20 كانون الثاني/يناير 1955، روى سعيد فريحة قصة "المعجزة التي تحقّقت" في مقالة نُشرت في "الصياد"، وكتب في مقدمة هذه المقالة: "انتهى الأمر، وقامت دار الصياد في ضاحية العاصمة، وعلى طريق الهند. وإذا كان قيام مثل هذه الدار يُعتبر في نظر السادة الأثرياء والعريقين في الثراء شيئاً عادياً لا يستحق الاهتمام، ولا يستدعي كتابة المقالات وسرد التفاصيل، فإنه يُعتبر في نظري، أنا الفقير والعريق في الفقر، حدثاً عجيباً ليس بينه وبين المعجزة سوى فركة كعب".

حوت مجلة "الصياد" طويلاً، باباً اجتماعياً فنياً حمل عنوان "شبكة الصياد"، وفي عام 1956 استقلّ هذا الباب، وبات مجلة باسم "الشبكة" صدر العدد الأول منها في 30 كانون الثاني/يناير، وزيّنت غلافها الأول صورة لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة. بعد "الشبكة"، أصدر سعيد فريحة صحيفة "الأنوار" اليومية في 25 آب/أغسطس 1959 لتكون "للقارئ والقارئ وحده" كما يقول الإعلان، وترأّس تحريرها، في حين شغل منصب مدير التحرير هشام أبو ظهر. نجحت "الشبكة"، كما نجحت "الأنوار"، وبات للصحيفة في 1967 ملحقاً أسبوعياً يتناول قضايا الفكر والفن يصدر معها صباح كل أحد.

على هامش العمل الصحافي، أنشأ سعيد فريحة "فرقة الأنوار" في 1960، وسعى إلى أن يجعل منها فرقة تحمل لواء الفن الشعبي اللبناني. وأعلن في 1973 عن ولادة "مؤسسة سعيد فريحة للخدمات العلمية والاجتماعية"، وهدفت هذه المؤسسة في الدرجة الأولى إلى تقديم المساعدات المالية للعاملين في حقل الصحافة، كما عمدت إلى "تقديم الجوائز والمنح لأهم إنتاج أو بحث أو دراسة أو نشاط يخدم المصلحة العامة".

في 1973 كذلك، أصدرت "دار الصياد" مجلة "أسبوعية قصصية مصورة" حملت اسم "سحر". بالتزامن مع هذا الإصدار الجديد، باشر سعيد فريحة تشييد مبنى جديد للدار وفق أحدث الأسس العصرية. في ذروة هذا النجاح، اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، وباتت "دار الصياد" في قلب العاصفة بسبب موقعها الجغرافي، وتعرّضت مكاتبها في الحازمية لإصابات متعددة من كل الجبهات المتقاتلة. حاول سعيد فريحة جاهداً أن يتجاوز هذه المحنة، وأصدر "الإداري" و"ويكلي أوبسرفر" في مطلع 1975، وأعلن إصدار "الدفاع العربي" و"تقارير وخلفيات". عانت "دار الصياد" من الحرب، وتعرضت لأكبر نكبة في تاريخها حين رحل مؤسسها عن هذه الدنيا فجأة في 11 آذار/مارس 1978 وهو في السادسة والستين من عمره.

كان سعيد فريحة في دمشق يلاحق أحدث المستجدات الصحافية والسياسية حين أصيب بذبحة قلبية نُقل على أثرها إلى مستشفى "المؤاساة" حيث فارق الحياة في المساء. ونُقل جثمانه إلى بيروت، ومرّ نعشه أمام الدار الني بناها ورعاها على مدى ثلاث وعشرين سنة، وقال المطران جورج خضر في رثائه: "أما نحن فلنا أن نستقرئ سيرته علنا نعتبر ونفيد. وأما السيرة، فهي انطلاقة صبي لم يرث من الحضارة شيئا، جاء من أميّته إلى تثقّف عاند به القدر، ليحتلّ مكانة في صحافة العرب كبيرة. ولما نحت الحرف بين أصابعه فصيحاً مبيناً، متيناً كمتن لبنان، سهلاً كسهول سوريا، أعطى لكل المشرق ما أعطى، أعطى أولاً بعضا من دمه، لما سجنه الأجانب فيما كان يناضل مع أحرار الشام، وكان قلبه راسخاً على هذا الجبل في حسٍّ مشرقي عميق على مد الأفق، واللبنانية تنمو في رحابتها وانفتاحها وحبها".

بعد رحيل مؤسسها، دخلت "دار الصياد" في منعطف مغاير، وأصدرت "مطبوعات عديدة أخرى، بعضها لأزياء الاميرات والفنانات والعارضات الجميلات، وبعضها الأخير للإدارة العامة ومؤسسات الدفاع والأمن في دول الخليج، بعنوان ابوظبي على وجه الخصوص" كما كتب طلال سلمان قبل وقت. في الخلاصة، فقدت "دار الصياد" روحها مع رحيل مؤسسها، وها هي اليوم تُقفل أبوابها، في زمن كثُر فيه الحديث عن ""نهاية الصحافة في لبنان".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024