زيارة المجوس

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/01/07
 
هاجم المخرج الأميركي مايكل مور حكومة بلاده أثر اغتيالها قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق، وتطرق في تعليقه إلى الإنجيل، مشيرا إلى أن المجوس الثلاثة الذين جاؤوا من المشرق بهدايا إلى المسيح الطفل عند ولادته كانوا من غرب الدولة الفارسية.
من هم هؤلاء الملوك المجوس، وكيف تطوّرت صورتهم وتحوّلت عبر القرون؟ لا تذكر الأناجيل الأربعة الكثير عن طفولة المسيح، إذ يقدّم كلٌّ من متّى ولوقا روايتين لهذه الطفولة في الإصحاحين الأولين من إنجيليهما، أما مرقص ويوحنا فلا يقولان شيئاً عنها. يستهلّ متّى إنجيله بعرض نسب يسوع، ويعرض لحبل مريم من الروح القدس، ثم ينتقل إلى خبر ولادة يسوع في بيت لحم وقدوم المجوس وسجودهم له بعدما قادهم إليه نجم رأوه في المشرق، فتبعوه حتى توقّف فوق المكان الذي فيه الطفل. في المقابل، يروي لوقا في كتابه بعضاً من الأحداث التي سبقت ميلاد المسيح وبشّرت به، ويقدّم رواية لهذا الحدث يغيب عنها المجوس بشكل كامل.


يأتي خبر قدوم المجوس في الآيات الأولى من الإصحاح الثاني من انجيل متى: "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاؤوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودوس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح. فقالوا له في بيت لحم اليهودية، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: أنت يا بيت لحم ارض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لان منك يخرج مدبّر يرعى شعبي إسرائيل. حينئذ دعا هيرودوس المجوس سراً وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر، ثم أرسلهم إلى بيت لحم وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه فاخبروني لكي آتي أنا أيضا واسجد له. فلما سمعوا من الملك ذهبوا وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا. وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه فخرّوا وسجدوا له ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهباً ولباناً ومرا. ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودوس انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم".


لا يحدّد متّى هويّة المجوس ولا يذكر عددهم ولا أسماءهم. في العالم اليوناني، تحمل كلمة "مجوس" أكثر من معنى، إذ تشير إلى الكهنة الفرس كما إلى السحرة والدعاة. ولا ترد هذه الكلمة في الترجمة اليونانية للكتاب المقدّس إلا مرّتين في سفر دانيال (2: 2، 10) حيث تدلّ بحسب المفسّرين إلى منجّمين كلدانيين من بابل. في المقابل، يبدو النجم الذي ظهر للمجوس وقادهم من بلادهم إلى القدس ومنها إلى بيت لحم تتمّة لنبوءة بلعام بن بعور في العهد القديم، وبلعام في سفر العدد هو العرّاف الذي بشّر بولادة داوود، وقال: "أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبا، يبرز كوكب من يعقوب" (24: 17). تتقاطع الرموز وتتكامل في التأويل اللاهوتي للحدث في القرون المسيحية الأولى: يلتقي المجوس بملكين، ملك مزيّف هو هيرودوس وملك حقيقي هو المسيح الذي بشّر به الأنبياء. لا يعترف هيرودوس، ومعه كل أورشليم، بالملك الحقيقي، بل يسعى إلى الفتك به. على العكس، يسير المجوس وراء النجم حتى يصلوا إلى هذا الملك، فيسجدون له ويهدونه ذهبا وبخورا وعطورا. لا يتعرّف شعب إسرائيل الى المسيح الذي ينتظره، أما المجوس، وهم رمز الأمم الوثنية، فأوّل من يأتي لإكرامه، وهم من هذا المنطلق صورة تشير إلى طابع الكنيسة الأممي.


لا نجد في أقدم ما وصلنا من الأناجيل غير القانونية تحديداً لهوية هؤلاء المجوس القادمين من الشرق، إلا اننا نجد في كتابات آباء الكنيسة بدايات لتكوين صورة الملوك التي تحدّد عددهم بسرعة، فباتوا ثلاثة. في القرن الثاني، رأى يوستينوس النابلسي أن المجوس ذوو أصول عربية، وقدّم إيريناوس أسقف ليون قراءة تأويلية لعطايا المجوس، فرأى في الذهب رمزا لملوكيّة المسيح، وفي البخور رمزا إلى طبيعته الإلهية، وفي الطيب إشارة إلى موته، وتأكيدا لطبيعته البشرية. وتجذّر هذا التأويل مع الزمن في الذاكرة المسيحية الجامعة. في القرن الثالث، ربط كبير لاهوتيي الإسكندرية أورياجانس بين المجوس والرجال الثلاثة الذين عاهدوا ابراهيم ورأوا فيه "مباركُ  الرب" (تكوين 26: 29)، وجعل منهم كلدانيين من سلالة برلام، العرّاف الذي رأى كوكب يعقوب. وبدت عطايا الذهب والبخور والطيب كأنها تأكيد لهذا العدد. في هذه الحقبة كذلك، جعل ترتليانوس القرطاجي من المجوس ملوكا، مستندا الى قراءة إنجيلية لما جاء في المزمور الثاني والسبعين: "ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة، ملوك شبا وسبا يقدمون هدية، ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له، لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس ويخلص أنفس الفقراء، من الظلم والخطف يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه".


بخلاف قراءة يوستينوس النابلسي، أجمعت مجمل الشروح الآبائية على أن هؤلاء الملوك المجوس هم من الفرس، وتكرّست هذه الهويّة في بدايات الفن المسيحي الأول في القرن الثالث حيث تكررت صورة الملوك الثلاثة المتقدمين بلباسهم الإفريجي نحو الأم العذراء، رافعين الهدايا للطفل الملك، وفقا لنموذج إيقونوغرافي روماني يعبّر عن خضوع الملوك المهزومين أمام الامبراطور المنتصر. انتشرت هذه الصورة بشكل واسع، وباتت علامة تختزل أممية الكنيسة، ووجدت هذه الأممية في القرن الرابع تعبيرا آخر يتمثّل في حضور ثور وحمار أمام مزود يرقد فوقه المسيح الطفل، في استعادة لآية من سفر النبي إشعيا تقول: "عرف الثور مالكه والحمار معلَف صاحبه لكن إسرائيل لم يعرف وشعبي لم يفهم" (1، 3). وفي التأويل المسيحي، تشير هذه الآية الى رفض اليهود للمسيح "ابن داوود ابن إبراهيم" (متى 1: 1)، واعتراف الخليقة كلها به.

في الفن المسيحي الأوّل، ظهر المجوس الثلاثة في صورة واحدة لا تميّز بين ملك وملك آخر، غير أن هذه الصورة تغيّرت في القرن العاشر حيث بدا الملوك كأنهم تجسيد لأعمار الإنسان، فهناك الأمرد، وهناك من له شعر ولحية لم يغزهما الشيب، وهناك من له لحية بيضاء. كذلك، تغيّر اللباس الفارسي الموحّد، وبات لكل من الملوك زيّ مميّز تتبدّل تفاصيله بشكل مستمرّ. ساد هذا التقليد في العالم البيزنطي، كما ساد في أنحاء الشرق المسيحي المتاخم بأقاليمه السريانية والقبطية والأرمنية، وانتشر بشكل واسع في العالم الأوروبي، وظلّ حيّاً في عصر النهضة، بمعزل عن التحوّل الجذري الذي شهده فن التصوير في هذه الحقبة التي شكّلت انقلاباً مفصلياً في تاريخ الفن.

ظهر الملوك في شكل واحد في مرحلة أولى، وتبدّلت ملامحهم وأزياؤهم في مرحلة لاحقة، وبات لكل منهم أسم خاص به.  تبدأ هذه الأسماء بالظهور في القرن السادس، وتبدو في مرحلة لاحقة ثلاثة أسماء ثابتة: غاسبار، وملكور، وبلطصّر (بلتازار). نقع على هذه الأسماء في انجيل منحول يُعرف إنجيل منحول يُعرف بـ"إنجيل طفولة يسوع الأرمني"، وهو بحسب أهل الاختصاص انجيل يعود تاريخه إلى أواخر القرن السادس وصل إلينا في نص أرمني يعود إلى القرن الحادي عشر، وفيه يحمل كل ملك من الملوك هوية شرقية خاصة، بخلاف التقليد الأوّل الذي جعلهم من الفرس فحسب. يظهر غاسبار كملك للهند، ويظهر بلطصّر كملك العرب، ويظهر ملكور كملك الفرس، وتتكرّس هذه الهويات في الفن حتى القرن الخامس عشر، في الشرق كما في الغرب.

في مطلع القرن السادس عشر، تأخذ هذه الهويات بعدا مغايرا في أوروبا حيث يظهر بلطصّر ببشرة سوداء، ويأتي هذا التحول كترجمة لقراءة تأويلية تجعل من الملوك الثلاثة حكاما للقارات الثلاث: آسيا، أفريقيا وأوروبا. تكرّس هذه القراءة التأويلية من جديد أممية الكنيسة الجامعة التي نادى بها آباء الكنيسة منذ عهد الرسل، وتشهد الصور الميلادية المعاصرة على استمراريّتها الحيّة في زمننا كما في القرون الماضية.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024