الكاريكاتير المصري.. واحتمالاته الباهتة الثلاث

شريف الشافعي

الخميس 2020/10/22
في الوقت الذي راحت فيه رسوم الكاريكاتير الحديثة ومعارضه الحالية تتهكم على كمامة الوقاية من كورونا في أعمال هزلية تنشد الضحك في قلب المأساة، فقد بات فن السخرية المصري الأعرق بحد ذاته مُكَمًّمًا، يتطلع للهواء الطلق وللحرية، فلا يجدهما.

وليس ممكنًا تصور فن الكاريكاتير بدون مغامرات متلاحقة، وصولات وجولات في فضاء الانفلات والاجتراء، فهذا الفن ذو النكهة الخاصة حالة من حالات الفوران والتثوير، سواء على مستوى الحدث الذي ينطلق منه في أي مجال، وعلى مستوى الأبجديات والتقنيات الجمالية التي يتسلح بها، ويُشترط فيها التطوير والاستشفاف والاستشراف والتحدث بلغة العصر الحديث.

وأمام مستجدات الواقع الطاحنة، ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصارخة، فقد بدا الفن الشرس مهيض الجناح، مقلّم الأظافر، متناسيًا ذاكرته في تعرية الحقائق والغوص تحت الجلد والتعبير عن الضمير الجمعي بطلاقة ودون مواربة، فلم يعد فن المكاشفة والمصارحة والمفارقة يقوى مثلًا على تناول الانتخابات البرلمانية في مصر (أكتوبر/ تشرين الأول 2020) من قريب ولا من بعيد، مثلما كان يفعل بأريحية من فترة غير بعيدة صلاح جاهين ومصطفى حسين وبهجت عثمان وآخرون في انتقاداتهم اللاذعة انتخابات مجلس الشعب في الربع الأخير من القرن الماضي، في صحف قومية رائجة، أو كما كانوا يتصدون لتصاعد موجات العنف والإرهاب في البلاد، وغيرها من الجراح العميقة الغائرة، والأزمات الشائكة.

بسبب الغلوّ في فرض القيود، والشطط في تعميم المحاذير، وتقلّص هامش الحريات حدّ التلاشي، وهيمنة الصوت الواحد على المنابر الإعلامية الورقية والإلكترونية، فإن المشهد الكاريكاتيري الراهن لم يعد يستوعب سوى أحد احتمالات ثلاث باهتة؛ الأول: عقد معارض اجترارية لبطولات قديمة وأمجاد منقضية، يجري فيها استدعاء أعمال الروّاد والراحلين، إلى جانب الشباب من راكبي الموجة، على سبيل التباهي والافتخار بالتاريخ وبالفن في آن.

ومن ذلك، معرض رسوم حرب أكتوبر 1973، الذي انعقد منذ أيام قليلة بتنظيم مشروع ذاكرة الكاريكاتير، ومشاركة عشرات الفنانين، منهم: حجازي، طوغان، صاروخان، محسن جابر، مصطفى حسين، الخ، ومعرض رسوم ثورة 1919، بمشاركة مصطفى مختار وفنانين قدامى، والرسّامة الشابة نشوى سعيد، التي انتهزت الفرصة لممالقة نساء 2020 بوصفهنّ مماثلات لنساء 1919 في التقدّمية والاضطلاع بأدوار مهمة في حركة الحياة المعاصرة!

والاحتمال الثاني للحضور الكاريكاتيري في الساحة المصرية: تنظيم معارض جماعية وفردية لمناسبات كرنفالية واحتفالية، اجتماعية في أغلب الأحوال، على أن تكون "آمنة" بالضرورة، لا تظهر فيها ضراوة المخالب الطبيعية للفن البصري الذي يفترض أن يكون صوت البشر في التعاطي مع الأحداث المهمة والقضايا الملحّة بالتحليل والاستبصار والكشف، وتفجير المسكوت عنه وفضح السلبيات في سائر المجالات، ونقل نبض الشعب بمصداقية.

ومن ذلك، معرض رسوم كورونا والعزلة والتباعد والكمامات والحجر الصحي، ومعرض الطقوس الرمضانية تحت وطأة الوباء العالمي، وملتقى خروف عيد الأضحى، ومعرض "لا للتحرش والتنمر"، وغيرها من الفعاليات التي انعقدت حديثًا، وشهدت مئات الأعمال للرسّامين الجدد، الذين انحصرت آمالهم تحت سقف محدد، فأقصى المتاح إثارة قضية مجتمعية، وفق منظور الدولة وطريقة معالجتها للأمر بطبيعة الحال، كما في رسوم الفنانة الشابة شهد مدحت مثلًا، التي أبرزت المبررات الذكورية للاعتداء على المرأة في معالجتها للتحرش الجنسي المستشري في أوصال البلاد.

أما الاحتمال الثالث، والأخير، لإفرازات المشهد الكاريكاتيري المصري الآني، كما اتضح خلال الفترة الوجيزة الماضية، فهو الأقرب إلى المعنى البديهي الجوهري للفن، قبل تجريفه وتحريفه في عصر الكمامات المفروضة، لأغراض ليست صحية. وهذا الاحتمال هو ذلك الثقب في الجدار، الذي تنجم عنه بعض الإرهاصات الفردية النادرة من الرسوم المناهضة وغير المستسلمة، والتي تتحايل في معظم الأحوال على الكبت والحصار بترميزات وإسقاطات ومراوغات، الأمر الذي قد يفقدها قدرًا من طاقتها وقدرتها على الصدام والمواجهة، ويسلبها الجسارة والوضوح الكافيين لإحداث التأثير المجتمعي المنشود.

لكنّ هذه الأعمال، المتسلحة بالذكاء إلى جانب الإدهاش، لا تخلو من بسالة وبطولية، خصوصًا أنها قد لا تجد مجالًا للنشر في الصحف الورقية والمنابر الإعلامية الإلكترونية، فينشرها مبدعوها على مواقعهم الشخصية، وعبر صفحات السوشيال ميديا، أو يطلقونها في نوافذ الكاريكاتير المتخصصة، وملتقياته المحلية والعربية والدولية، متصدّين للمسؤولية ومتحمّلين للتبعات بصدور عارية.

من ذلك، على سبيل المثال، أعمال الفنان عمرو عكاشة التي يحلل بها القوى السياسية على الساحة في ما بعد ثورة يناير 2011 إلى يومنا هذا، ورسوم الفنان محمد وهبة الشناوي التي يتناول فيها عصر التقييد والأمراض العصرية الحقيقية التي خنقت الإنسانية، وعلى رأسها القهر والفقر والعنصرية، وغيرها من الأعمال التي تنحو صوب التجريد والتعميم متفادية تسمية الوجوه بأسمائها، خوفًا من البطش والتنكيل.

وعلى الرغم من هذه الالتواءات الشكلية في طرح المضمون الانتقادي، فإن الكاريكاتير يبقى ممتلكًا ما لا تمتلكه المقالات الصحافية المدبجة من تقنيات الفكاهة والسخرية والمفارقة والتضخيم وما إلى ذلك، من أجل تكثيف الضوء على أمور معينة لإبرازها، والنيل من أمور وظواهر أخرى بتهميشها وتقليصها، وهذا سر نجاح هذه الرسوم ذات الأثر الصادم المحرّك للخيال والمحرّض على التمرد.

لقد قضى فن الكاريكاتير عقودًا طويلة في بلاط صاحبة الجلالة، ظل فيها فن الجرأة والتجريب والتحرر وإزاحة الرقيب المفروض دائمًا على الكلمة بشكل أو بآخر، ولذلك فإن أبناء الجيل الجديد من هؤلاء الفنانين المقاتلين لا ييأسون في محاولة إيجاد أساليبهم الخاصة في إدارة المواجهات والصراعات، بغير صدامات مباشرة مع القوى القمعية، وبدون تفادي التابوهات والمحرّمات والخطوط الحمراء على نحو كامل في الوقت نفسه، وتلك هي المعادلة الصعبة التي نجحوا في حلها قدر جهدهم.

ولعل ما يستند إليه صوت الأمل لدى هؤلاء الفنانين، أن فن الكاريكاتير، إلى جانب فنون بصرية أخرى مثل الغرافيتي والكوميكس، كان له دور مشهود وأثر جماهيري ملموس في ميادين التحرر التي شهدتها ثورات الربيع العربي منذ سنوات قليلة، حيث أثبت فن التهكم السحري تفوقه وإمكاناته القصوى في التفاعل مع تحولات الشارع المصري والعربي في ظل ظروف قاسية سيئة، وإزاحة القداسة الزائفة عن كيانات هشة، وهدم المعابد القديمة والموروثات المحنطة، الأمر الذي يعني أن اندثار هذا الفن العريق ضرب من المستحيل، مهما ثقلت الصخور الجاثمة على صدره وتأجل موعد تحطيمها.

وتبقى المسؤولية المنعقدة على الأجيال الحالية من فناني الكاريكاتير مضاعفة، فإلى جانب أزمة التضييق وتقليص الحريات، هناك أيضًا مشكلات التسويق والتمويل، والعقبات الإدارية والمؤسسية التي تحول دون تكييف الكاريكاتير كصناعة رابحة رائجة، بمعزل عن الصحافة، وتراجع النشر الورقي بوجه عام، وغيرها من العوائق المحبطة، التي يتطلب تجاوزها مثابرة فريدة، وإصرارًا على مواصلة العمل والتحدي بدون توقف، لضخ الروح من جديد في قلب ينبض بوهن، ليبقى فنًّا جامحًا، خارج أفق التوقعات، ودوائر السيطرة والتحكم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024