بوب ديلان في ألبومه الجديد: تعالوا ندفن أميركا

محمد صبحي

الخميس 2020/06/25
بالإضافة إلى وباء كورونا، سيخلَّد العام 2020 في التاريخ أيضاً باعتباره العام الذي سمح فيه بوب ديلان أولاً، لثلاث أغانٍ أن تتسلل إلى العالم عبر "تويتر"، بأكثر طريقة عَرَضية يمكن تصورها، كما كتب نعياً مؤثراً لمغنّي الروك ليتل ريتشارد، "نجمه الساطع ومرشده الأول حين كان صغيراً"، وأخيراً تجاوز توقعات أكثر معجبيه تفاؤلاً بإصدار أثر غنائي جديد من مؤلفاته الأصلية، هو الأول منذ العام 2012.


"راف أند راودي ويز" (طرق وعرة وعنيدة) ألبومه التاسع والثلاثين، والأول منذ "عاصفة" الصادر قبل ثماني سنوات. كالعادة، قبل إصدار الألبوم رسمياً، ظهرت مراجعات وقراءات للألبوم الجديد، حاول كُتّابها اختراق العمل الجديد لمعرفة ما يريد الفنان قوله. لكن قبل أي شيء، فإن كلّ محاولة لاختراق خزانة الكنوز الموسيقية المتلألئة تلك، لفكّ شفراتها المعرفية والمرجعية؛ يتعيَّن عليها الإحاطة الشاملة بالمنجز الديلاني السابق والتجوّل طويلاً في مغامراته الموسيقية والفنية، في أعماق الماضي البعيد. هذا المحيط المعرفي والنغمي المكتنز في أغنيات "السهل الممتنع"، سيحتاج بالتأكيد بعض الوقت، ومرات استماع عديدة للقبض على فيضه، وعلى الأغلب سيبقى سفراً مفتوحاً على اكتشافات جديدة من وقت لآخر.

الألبوم الجديد هو أكثر أعمال ديلان المتأخرة تميّزاً ومكافأة، على الأقل منذ "حُبّ وسرقة" في العام 2001، مع سبعة ألبومات تفصل بينهما، ثلاثة منها بمواد أصلية تخصّ ديلان، لكن أيضاً مع مئة حلقة من البرنامج الإذاعي "Theme Time Radio Hour" الذي بدت فيه موسيقى ديلان مثل رواق بألف باب. هنا أيضاً يبدو ديلان، رجل تناقضات وأمزجة كثيرة، يتجول ذاهلاً في متحف ويتعرّف على نفسه في كل ما حوله، يغنّي كمن يريد تلخيص حياة بأكملها في أسطوانة غنائية. 


ميلانكوليا الحكيم العجوز

بمناسبة الألبوم الجديد، خصّ ديلان صحيفة "نيويورك تايمز" في واحدة من مقابلاته النادرة والملحمية، حاوره فيها المؤرخ دوغلاس برينكلي. أجوبة ديلان المباشرة للغاية على أسئلة برينكلي، تضع أغاني الألبوم في سياق الأحداث الحالية، وفي الوقت نفسه تعلن بشكل واضح قطيعة مع عقود سابقة برع خلالها ديلان في احتراف ألعاب القط والفأر مع الصحافيين الموسيقيين، وجميعها موثّقة في كتبٍ منشورة. يأتي الأمر هنا بهذه البساطة: خذ خطوة إلى الوراء، يقول ديلان، وانظر إلى كل شيء مثل لوحة مرسومة.

وبمثل تنوّع مواضيع أغنيات الألبوم، بين سياسة وتاريخ وفلسفة، تعرج المقابلة إلى استعادات تاريخية وانعكاسات ذاتية. في حديثه حول أغنية "ميردر موست فوول" (أكثر القتل حماقة) قال ديلان بأنه يفكّر "في نهاية الجنس البشري. في الرحلة الطويلة والغريبة للقرد العاري. لا أريد أخذ الأمر بخِفّة شديدة، لكن كل حياة عابرة، وكل إنسان، بغض النظر عن مدى قوته أو جبروته، يكون هشّاً عندما يتعلق الأمر بالموت. أفكر في الأمر بشكل عام، وليس بطريقة شخصية".

يتأمّل العالم من شرفة شيخوخته الحكيمة والمتشائمة: "هناك بالتأكيد المزيد من التوتر والعصبية في الوقت الحاضر، أكثر مما اعتدنا سابقاً. لكن هذا يؤثر فقط على أشخاص في سنٍ معينة، أشخاص مثلي ومثلك. يميل أمثالنا إلى العيش في الماضي. لكن هذا فقط نحن. الشباب ليس لديهم تلك النزعة. ليس لديهم تاريخ. كل ما يعرفونه هو ما يرونه ويسمعونه ويؤمنون بكل أنواع الأشياء. خلال 20 أو 30 عاماً، سيكونون في القمة. إذا رأيت اليوم شخصاً يبلغ من العمر 10 سنوات، في غضون 20 أو 30 عاماً سيكون في موضع سيطرة ولن تكون لديه فكرة عن العالم الذي ما زلنا نعرفه".

"ماذا تعرف عن مذبحة ساند كريك العام 1864؟" يسأل ديلان محاوره. يعيد التذكير بذبح المئات من هنود  قبيلتي الشايان والأراباهو على أيدي القوات الأميركية في كولورادو. يأخذك ديلان في جولة لتقصّي الحقائق وتدقيقها. في كتبٍ، في الإنترنت، في أفلام، وأيضاً في أغانيه. من المؤكد أنه ليس من قبيل المصادفة أن يحضر ذكر تلك المذبحة في سياق الحديث عن "طرق وعرة وعنيدة". فالألبوم تعيش كل أنفاسه في مزاج ميلانكولي مناسب لرؤية ديلان الكئيبة لحال العالم اليوم ومستقبله. لكن، مع ذلك، يأتي هذا السواد بطريق ناعمة وسلسلة، والأغرب، مع تأثير مهدئ لطيف، كأنه تعب من الصراخ والمناداة عالياً بعالم أفضل، فقرّر مواجهته بعدمية إيجابية تليق بالنهايات المرتقبة ومسار التاريخ المتكرر والملتفّ على نفسه.

نبي مزيّف

يقول في الألبوم الجديد "أنا لست نبياً مزيفاً". هل هذه صدفة أم مقصودة؟ أستاذ اللاهوت السابق جوزيف راتسينغر - البابا بنديكت السادس عشر لاحقاً - ذكر في كتابه "يوحنا بولس الثاني: سلفي المحبوب" أنه حاول عبثاً منع ظهور ديلان في مؤتمر الكنيسة في بولونيا العام 1997 ، واصفاً إياه بـ"النبي المزيّف".

لا ينسى ديلان أبداً، فهو موسيقي ومغنٍّ وشاعر ومؤلف وممثل ومؤرخ في الوقت نفسه. يمزج كل شيء لتجميعه مرة أخرى في أغنية تحتاج، لفضّ مكنوناتها، أن يكون بجوارك قاموساً أو اثنين مع بعض المراجع التاريخية، الأميركية خصوصاً. التاريخ المعاصر هو تاريخ البوب، وفي أكثر أغنيات ألبومه الجديد ملحمية، "موردر موست فاول" (القتل الأكثر حماقة)، عاشرة الأغاني وخاتمتها، يمكنك الشعور بمتعة لا تنقطع من القوة الإبداعية لصاحب الـ79 عاماً وعناده الذي لا يلين في كل سطر يغنيه.

قبل شهرين، أطلق ديلان الأغنية لتنفجر وسط الوباء مثل مفاجاة غير متوقعة. تاريخ الستينيات الأميركية يحضر بكامل تعقيده وعنفوانه، في أخدود موسيقى ملحمي، وخلفية مثالية لصوت ديلان الواثق والمكثّف ليحكي قصة أميركا القرن العشرين، ثقافياً واجتماعياً، بطريقة تخصّه وحده. تحفل الأغنية بالإحالات، بداية من عنوانها الشكسبيري المقتبس من شبح والد هاملت، مروراً بمنطلقها البادئ من حادثة اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، مع كنز متلاحق من الاقتباسات، من جملة لإحدى أغنيات فرقة البيتلز إلى مشهد في فيلم رعب إلى شكسبير مرة أخرى؛ يخلق ديلان بانوراما ضخمة ومتشعبة في غرفة مرايا توفّر نظائر تاريخية جديرة باهتمام أميركا في محنتها الحالية.


تبدو الأغنية مثل سفرٍ أخير لدينٍ يكتب ديلان أساطيره بنفسه منذ أوائل الستينات. بعد سرد موجز للأحداث في دالاس، التي تصوّر اغتيال كينيدي على طريقة فيليب روث، باعتباره "مؤامرة ضد روح أميركا"، يبدأ بطل ديلان في رحلة عبر المدينة. تظهر شخصيات مهمة من ثقافة البوب ​​على جانبي الطريق، ينادي الفنان شارلي باركر، وإيتا جيمس، ونينا سيمون، وجون لي هوكر، وفرقة البيتلز، والآنسة ماربل.. وجميع الأرواح الطيبة الأخرى في سنوات تكوينه الفنّي. هل هذه خطبة وداع؟ أم مرثية لدفن أميركا، أخيراً وإلى الأبد؟

بالطبع جرى العمل على "القتل الأكثر حماقة" قبل تفشّي الوباء ومقتل جورج فلويد، لكن كيف يمكن الاستماع إلى الأغنية اليوم بمعزل عن الأحداث؟ موسيقى البوب دائماً مرتبطة بالسياق، وهذا يعني الحالة الفائرة التي عليها أميركا الآن. لا ينعي ديلان، جون كينيدي فحسب، بل أيضاً أميركا نفسها كما جسّدها الرئيس المغتال، كدولة سلالات حاكمة ممتدة ومؤسسات راسخة. قبل 57 عاماً، حين اغتيل كينيدي في دالاس، ربما كانت هذه الـ"أميركا" وهماً، توحّلت سمعتها في فيتنام، وابتليت بالحرب الباردة، ثم الصراع بين الأجيال وتبعات البارانويا المكارثية. لكن اليوم، يمكن للمرء أن يرضى بتلك النسخة المُلطفة من الدولة التي تتخلّى عن شعبها، على ضوء الأعماق الجديدة التي تنزل إليها كل يوم بعد كل تلك السنوات التي لم تغيّر شيئاً، سوى إمداد التاريخ بأنبياء مزيّفين.

في الصميم مباشرة

واحدة من مآثر ديلان، اشتباكه الدائم مع جوهر الخلل الأميركي، من دون الوقوع في فخاخ التعليق المباشر على الأحداث. هذه الاستراتيجية أنقذته سابقاً من عديد المواقف المحرجة وضمنت الخلود لكثير من أغانيه. الموضوع الوحيد الذي صاغه ديلان دائماً بوضوح تام في أغانيه، كان عنصرية البيض ضد السود في الولايات المتحدة... سواء كانت عن "ميدغر إيفرز" (ناشط الحقوق المدنية، اغتيل في العام 1963)، أو "إيميت تيل" (صبي أسود أُعدم العام 1955 بتهمة الإساءة إلى امرأة بيضاء)، أو "هاتي كارول" (نادلة سوداء قتلها شاب أبيض ثري، حُكم عليه بعدها بالسجن ستة أشهر)، "جورج جاكسون" (أحد زعماء منظمة "بلاك بانثر" الماركسية الثورية، اغتيل العام 1971 أثناء محاولته الهروب من السجن)، أو في ملحمته الجنوبية العظيمة من العام 1983 "بليند ويلي ماكتيل" (مغنّي موسيقى البلوز الأسود).

حين كان ديلان في الثانية والعشرين من عمره غنّي في ذكرى ميدغر إيفرز: "وتعلَّمَ أن يمشي في زمرة/ أن يطلق النار في الظهر وكفّه مقبوضة بإحكام./ أن يُعلِّق ويُعدِم./ أن يخبّئ رأسه تحت قلنسوته./ أن يقتل بلا ألم./ مثل كلب مربوط بسلسلة./ لا اسم له/ إنه مجرد بيدق في لعبتهم". الآن، بعد كل هذه السنوات، يبدو ذلك الوصف القاسي والدقيق للتنشئة الاجتماعية العنصرية في ظلّ نظام عنصري، صالحاً للاستدعاء، لأن لا شيء جوهرياً تغيّر ولا تزال الأمور على حالها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024