طه حسين..الذي خاب أمله برواية ألبير كامو "الطاعون"

محمد حجيري

الأحد 2020/05/17
كثر يعرفون أن صاحب "في الشعر الجاهلي" الأديب المصري طه حسين، المولود في 15 نوفمبر 1889، في قرية الكيلو في صعيد مصر، فقد بصره في سنوات عمره الأولى. أصيبتْ عيناه بالرمد ما أطفأ النور فيهما إلى الأبد؛ ويرجع ذلك إلى التخلف وعدم اعتماد أهله على الطبيب بل جلبوا الحلاق الذي وصف له علاجاً ذهب ببصره، (كما يروي هو عن نفسه في كتاب "الايام")، فكانت كلمات صديق والده بعد ذلك بأن طه لا يصلح إلاّ ان يكون مقرئا للقرآن عند المقابر ويتصدق عليه الناس، الى آخر المعزوفة المأساوية. لكن طه حسين بحسب الرواية، تجاوز محنة فقدان البصر وكان بصير العقل، فتعلم وحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنوات، وأصر على ان يحضر الدروس التي تلقى في القرية، حتى برز بين أقرانه من المبصرين بحفظه وادراكه لما يلقى عليهم من دروس. ولاحقاً سافر الى فرنسا وصار اسماً تهابه الدولة المصرية، وأديباً يتقدم على أقرانه بأشواط، أو هو "الأعمى الذي رأى"، مثله مثل هوميروس والمعري وبشار بن برد وبورخيس...

***
لم يكن فقدان البصر المشكلة الوحيدة التي حلّت بطه حسين في زمانه. كان عام 1902 من أشد الأعوام قسوة على طفولته. فقد شهد في نصفه الأول وفاة شقيقته الصغرى (4 سنوات)، وإن كان هناك سبب يمكن أن يساق في تفسير ميتة الطفلة، فهو يتحدد من وجهة نظر طه حسين في "الإهمال" الذي كان يسيطر على الثقافة الريفية في ذلك الحين، بل المجتمع ككل، فالحياة والموت مشيئة الله في عرفهم، والسبيل الوحيد الذي كان يروقهم حينئذ هو اللجوء إلى الوصفات البلدية الخرافية و"الروحانية" وصولاً إلى الطب النبوي. وترافق انتشار الكوليرا عام 1902 في صعيد مصر مع وفاة شقيقة طه حسين الذي يصف مشهد الوباء داخل "عزبة الكيلو" قائلًا: "كان صيفًا منكرًا في هذه السنة (1902). وكان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكًا ذريعًا، دمر مدنًا وقرى، ومحا أسرًا كاملة، وكان الأطباء ورسل مصلحة الصحة قد انبثوا في الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى، وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب، وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى، وتنتظر حظها من المصيبة". وكان لأسرة "عميد الأدب العربي" مأساة اضافية من وباء 1902 حين اختطف شقيقه، الذي كان قد حصل على البكالوريا وانتسب إلى مدرسة الطب، واندفع إلى معاونة طبيب القرية في مكافحة المرض داخل خيام العزل، فالتقط العدوى وتوفي، وبات يوم وفاته في 21 أغسطس/ آب 1902 في ذاكرة طه حسين كواحد من أشد الأيام بؤسًا في حياته.

***
"الحزن كالوباء يوجب العزلة"، قال طه حسين في الجزء الأول من ثلاثيته، لا يذكر ما حدث لأخيه، بل يصور غزو هذا الوباء العام للمدن والقرى. إزاء هذه الكارثة، تتباين ردود أفعال الناس فيكثر مقرئ القرية من عمل "الأحجبة" كما أغلقت المدارس والكتاتيب. في هذه المرحلة يقول الكاتب المصري محمود خليل، كانت كلمة "الهيضة" هي أكثر كلمة تتردد على ألسنة البسطاء من أبناء القرى وعشوائيات المدن، وأيضًا بين الكبار. و"الهيضة" هو الوصف الذى خلعه العرب على وباء "الكوليرا"، أما المصريون فكانوا يطلقون عليه "الشوطة" التي تكتسح البشر. وقد توسع البسطاء في ما بعد، فمدوا الظلال الدلالية لـ"الشوطة" لتشمل أي عملية موت جماعي تصيب أيًا من مخلوقات الله. وبعد عقود على كوليرا 1902، وحين صدرت رواية "الطاعون" للفرنسي ألبير كامو(1947) (أخذت حيزا مهما من القراءة في زمن الكورونا)، كتب عنها طه حسين في مجلة "الكاتب المصري"، في النصف الثاني من الاربعينات، (يبين مقاله الفجوة العميقة بين نقد الأمس ونقد اليوم، يبدو معظم نقد اليوم مقارنة بنقد طه حسين قزمياً)، في تلك المرحلة أيضاً، كان وباء الكوليرا قد حلّ في مصر من جديد، كتبت عنه نازك الملائكة قصيدتها الشهيرة، واندريه شديد روايتها "اليوم السادس"(اقتبس عنها يوسف شاهين فيلمه)، أما طه حسين قال إنه كره عنوان رواية كامو، فاختار "الوباء" عنواناً لمقاله، وبدا ساخطاً على الرواية برغم حبه لصاحبها، قال "قرأت هذا الكتاب اثناء الصيف الماضي وأقبل على قراءته مشغوفاً بها، مشوقاً اليها أشد الشوق، لأني أحب الكاتب وأعجب بفنه ولكني لم أكد أمضي في قراءة الكتاب، حتى أدركني شيء من خيبة الامل، ثم أخذت أضيق به وأمضي في قراءته كارها للمضي فيها ولو قد استجبت لميولي الأدبية لما أتممت قراءة الكتاب، ولكني لا أكاد أبدأ كتاباً حتى أفرض على نفسي اتمامه، مهما يكن رضاي عنه، أو سخطي عليه". يضيف طه حسين في وصف "الطاعون": "أمام شيء ليس هو بالقصص الخالص، ولا هو بالفلسفة الخالصة، وانما يريد ان تكون قصة تروع بالفن الأدبي فلا يبلغ ما يريد، ويريد أن يكون درساً يروع بدقة البحث وحسن الاستقصاء فلا يبلغ ما يريد"... وفي لقاء تلفزيوني يعود لأكثر من 50 عاماً أجرته الإعلامية ليلى رستم، يقول طه حسين إن كامو لم يكتب في حياته قصصاً طبيعية فيها من مواصفات الأدب ما يمكن اعتباره أدباً، باستثناء روايته "الغريب" وما عدا ذلك في سائر نتاجاته لم يكن سوى شخص ثرثار، لا يدري ما يقول".
بعد نحو 118 عاماً على وباء الكوليرا الذي خطف شقيق طه حسين، وذلك الزمن الذي كان الناس يتوهمون بعلاج الحجب، نعيش زمن الكورونا، وها هو الايطالي جوجيو أغامبين يكتب عن الطب بوصفها ديانة، مع ذلك لا يزال الناس في لاوعيهم، يكافحون الكورونا بالصلوات والقداديس.


©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024