ربما يكون الموت بكورونا أفضل من عبادة إلهٍ بعبع!

أسعد قطّان

الإثنين 2020/03/16
يحيلنا الخطاب الدينيّ في زمن الكورونا إلى التوتّر القديم بين العِلم والدين، وكأنّ الناطقين الرسميّين باسم الأديان لا يتقنون لعبة الترويج لله و«صحبه» من الأولياء والقدّيسين إلاّ إذا مرّت هذه اللعبة بتكتيك نفي العلم أو التقليل من شأنه. فتارةً يصبح القدّيس فلان هو الشافي «الحقيقيّ» من الكورونا وسائر الأمراض المستعصية، وطوراً يصبح المرض الآخذ في التفشّي أحجية بيولوجيّة يضرب الله بها عصفورين بحجر واحد، فيتحدّى العلماء ويعجّزهم من جهة، ويرسل إلى الناس أمراضاً يؤدّبهم بها كي يرجعوا إليه من جهة أخرى. أمّا الطامة الكبرى، فهي حين نسمع من هنا وهناك أنّ المشكلة الفعليّة ليست المرض في ذاته، بل خوف البشر المتصاعد منه وكأنّ الاتّكال على الله في أزمنة الضيق قادر بسحر ساحر أن يبدّد خوف البشر من الموت، أو كأنّ الإيمان بالله في القلب البشريّ عمليّة ميكانيكيّة لا تعرف التقلّب والصعود والنزول.


مشكلة الخطاب الدينيّ مع العلم يمكن عزوها إلى إحساس متأصّل في المُؤَسّسة الدينيّة بأنّ العلم اقتطع أجزاءً من نطاق سلطتها. هذا الإحساس صحيح. في الأزمنة الغابرة، كان الناس يلجأون إلى المرجعيّة الدينيّة للتغلّب على أمراضهم. أمّا اليوم، فهم يذهبون إلى الأطبّاء. من وجهة النظر هذه، العلم أثبت أنّه أكثر قدرةً من شيوخ الدين على التعامل مع ظاهرة المرض الجسديّ. بيت القصيد هنا هو أنّ العلم اضطرّ الدين إلى تغيير تحديده لذاته وإلى إعادة النظر في الدور الذي يضطلع به. لم يعد شفاء الجسد يقع ضمن نطاق الدين. ضاقت رقعة اختصاص الدين وتراجعت سلطته. والحقّ أنّ العلم ما زال يتحدّى الدين إلى اليوم في عدد لا يستهان به من المجالات كالفيزياء والأنثروبولوجيا والبيولوجيا والطبّ الجسديّ والنفسيّ رغم أنّ هناك آلاف الأسئلة التي لم يتمكّن بعد من الإجابة عنها.

هذا التوتّر في عمقه له مفاعيل صحّيّة على الدين. العلم لا يشفي البشر فحسب، بل يشفي المُؤَسّسة الدينيّة أيضاً من أوهامها وترّهاتها، وذلك على قدر ما يذكّرها بأنّ ليس من شأنها أنّ تسيطر على مجالات الحياة الإنسانيّة برمّتها، بل إنّ اختصاصها هو مساعدة الإنسان على التبصّر في علاقته بالمطلق والتعبير عنها وتدبّر مسألة معنى الوجود الإنسانيّ وما يخالطه من أسئلة كبرى، وأهمّها السؤال عن الموت. العلم، بهذا المعنى، قادر على تطهير الدين من شوائبه وممّا تختزنه المُؤَسّسة الدينيّة من نزعة إلى التسلّط، كما أنّ الدين وظيفته تذكير العلم بأنّ الأسئلة الأخلاقيّة الكبرى أمر يتخطّى المناهج العلميّة بحيث لا يمكن استمداد الأجوبة عنها من المختبر.


الخطباء الدينيّون الذين يجدون في تفشّي وباء الكورونا، الذي يشغل العالم اليوم، أداةً للترويج لله عبر إظهاره بمظهر من يتفوّق على الطبّ في قدرته على الشفاء يخطئون الهدف، لا لأنّهم يجعلون الدين يقع من جديد في فخّ منافسة العلم فحسب، بل لأنّهم عاجزون عن الإتيان بجواب عن السؤال الثاني على قائمة الشكّاكين: لماذا يشفي الله البعض ويسمح بهلاك آخرين؟ والأكيد أنّ هذا هو السؤال الأصعب. أمّا الذين يخوّفون الناس بالمرض العضال كي «يربحوهم» إلى معسكر الله من جديد، فينسون قول أحد كتّاب العهد الجديد إنّ «محبّة الله تنفي الخوف». الله لا يريد أن يأتي الناس إليه أذلاّء خائفين، بل يريد بشراً أحراراً يأتون إليه تحدوهم المحبّة التي يجيبون بها على محبّته لهم، وتحدوهم الحرّيّة. آنذاك فقط يصبح للإيمان معنى. هذا النوع من الإيمان حقيقيّ حتّى لو خالطه خوف من الموت. لقد بيّن لنا يسوع بخوفه من الموت على جبل الزيتون أنّ هذا الخوف جزء من الطبيعة الإنسانيّة ولا داعي لإسكاته. أمّا الخوف الذي يتنافى مع الإيمان ومع المحبّة، فهو خوف الإنسان من الله حين يتحوّل الله في الوعي البشريّ إلى بعبع وإلى كابوس. ربّما يكون خيراً للإنسان أن يموت بالكورونا من أن يعبد إلهاً من هذا
النوع.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024