أهداف سويف: المثقف كخبير

شادي لويس

الجمعة 2019/07/26
في مايو أيار، عام 2016، أصدر ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني حينها، قراراً بتجديد عضوية ثلاثة من أعضاء مجلس إدارة المتحف البريطاني، لأربع سنوات إضافية. كان من بينهم، لورد ليبتون، عضو مجلس اللوردات وأحد قيادات حزب المحافظين ومجلس إدارته، الذي لم يكن له صلة قرابة بلورد ليبتون صاحب علامة الشاي الشهيرة، لكنه واحد من كبار رجال البنوك الاستثمارية ومن أسخى المتبرعين لحزب المحافظين الحاكم. ومن عالم الأعمال أيضا، جاء العضو الثاني، غافين باترسون، والذي ترأس شركة الاتصالات البريطانية "بي تي"، ومن قبلها "فيرجين ميديا"، وكذلك شارك في عضوية مجلس إدارة الخطوط الجوية البريطانية.

وكانت الروائية، أهداف سويف، المولودة في القاهرة، هي الوحيدة بين الثلاثة القادمة من عالم الثقافة، والوحيدة المولودة في الخارج، ولم تحتو سيرتها الذاتية على مناصب إدارية أخرى، سوى دورها في إدارة مهرجان الأدب الفلسطيني الذي تقيمه الجمعية الخيرية التي ساهمت في تأسيسها.

وبين الأعضاء الـ25 في إدارة المتحف، الذين يعين التاج واحداً منهم ورئيس الوزراء 15، هناك مناضلة جنوب أفريقية، واقتصادي هندي حاصل على جائزة نوبل، بالإضافة إلى طبيب بريطاني حاصل على الجائزة نفسها في الطب، وبارونة، ومثّال واركيولوجي ومسرحي ومؤرخ جميعهم بريطانيون. ومع هذا تبقى الغلبة لرجال الأعمال وخبراء التسويق والإدارة. وتعكس تشكيلة مجلس إدارة المتحف الأعرق في العالم، المؤسس قبل أكثر من قرنين ونصف قرن، المنطق الذي يحكم إدارة المؤسسة الثقافية العامة في عالمنا اليوم. فالتلاقي بين الأجندة السياسية والخبرة أضحى الركن الأساسي في إدارة المؤسسات العامة بشكل عام، وفيما تهيمن مسألة التمويل وإدارة الموارد على جانب الخبرة، فإن الفنانين والأدباء يتم إشراكهم أيضا في منظومة الإدارة الثقافية بوصفهم "خبراء" يتعلق دورهم بالتوجهات العامة والخطوط العريضة. وليس هذا بالضرورة تراجع لدور المثقف، بقدر ما هو جزء من عمليات بقرطة ورسملة الحياة الثقافية من ناحية، واعتراف بأن الإبداع ليس سوى جانب واحد في عملية الإنتاج الثقافي. هكذا يبقى للمثقف أن يكون ضميرا للمؤسسة الثقافية، أو بتعبير أقل أخلاقية، بصيرتها.

ويبدو أن أهداف سويف أخذت دورها هذا على محمل الجد، حين أعلنت عن استقالتها من المتحف البريطاني، الأسبوع الماضي. وفيما كانت الاحتجاجات ضد المتحف ومؤسسات ثقافية أخرى تتصاعد بسبب الشراكة مع شركة "بريتش بتروليوم"، فإن إعلان استقالة سويف، أشار إلى أن اعتراضها لا يتعلق بقضية واحدة، بل بجملة من القضايا. فبالإضافة إلى الموضوع البيئي، وتورط المتحف في تبييض سمعه الشركة البترولية، فإن الخطاب أشار إلى عجز الإدارة عن التحرك قدما في ما يخص إعادة الآثار "المنهوبة"، وقضية أخرى تتعلق بحقوق عدد من العاملين.

"المتحف البريطاني ليس شيئا خيرا بذاته... وهو خير بقدر ما يستطيع أن يؤثر في العالم بشكل خير"، لا تتبنى سويف هنا موقفا أخلاقيا متعاليا، فقد أصدر العاملون في المتحف قبل يومين بياناً لدعم استقالتها وأسبابها. فهي تنزع عن الثقافة رومنسياتها وهالة التبجيل، وتقر بأن الثقافي ليس سوى جانب واحد من الثقافة، وأن السياق الأوسع وظروف العمل والتمويل والتأثير السياسي والعلاقة بالتاريخ والمسؤولية تجاه الأجيال القادمة تتشابك جميعا. وكذلك يشير خطاب العاملين إلى أن قضية الآثار المنهوبة لا تتعلق بالأخلاق فقط، بل بعجز المؤسسة البريطانية عن التعامل مع الإرث الاستعماري. ويؤكد على ارتباط تلك العلاقة المضطربة مع الماضي، بالانقسام المجتمعي العميق التي تمر به بريطانيا اليوم وسط أزمتها السياسية.

تظل استقالة سويف عملا رمزياً، لكن دوافعها لا تقف عن حدود الرمزي أو المجرد. فهي كما تؤكد على دور المثقف كبصيرة لمجتمعه ولمؤسساته، أو كخبير في معنى الخير كما الجمال، فإنها تثبت أيضا أن الأخلاقي عملي جدا، حاضر، ويومي إلى أقصى حد. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024