محمود درويش في ذكراه العاشرة.. تمارين على الرثاء

هشام أصلان

الخميس 2018/08/09
1
بينما يمضي العمر، لم تكن لتتوقف، أبدًا، متأملًا ما طرأ عليك من تحولات بغير تلك الأحداث التي كلما تذكرت أجواء وقوعها تساءلت مُستغربًا: "كيف مر الوقت بهذه السرعة؟". واليوم 10 سنوات على رحيل محمود درويش!

2
"المناورة نجحت"، يقول رئيس القسم الثقافي، لرئيس التحرير.
كانت أسابيع قليلة قد مرت على التجهيز لإصدار الجريدة التي التحقتُ للعمل بها حديثًا. العاملون في الصحافة يعرفون ما يُسمى بالأعداد التجريبية التي تسبق صدور المطبوعة. كنّا نعمل يوميًا على تجهيز عدد لن يصدر طبعًا. المحررون متذمرون بسبب التعب اليومي "على الفاضي"، ورؤساء الأقسام يصبرونهم بأن هناك موضوعات نوعية ستصلح للنشر بعد الصدور.

"عايزين صفحة عن رحيل درويش حالًا". هذا سيجمع شهادات من كبار الكُتّاب، وهذا سيجمع بعضاً من أشهر أبياته الشعرية، وهكذا كُلفتُ بكتابة مُقدمة رثائية للصفحة. هي فرصة جيدة لاختبار كفاءة محرري الثقافة. وأنا، في هذه اللحظة، لم أزل هذا العابث، الذي عرف ما يريده من الدنيا متأخرًا عن أقرانه، مُتمطعًا في مراهقة لا تُبشر بشيء له قيمة، لا تُبشر بشيء من الأساس، بينما هؤلاء الأقران يجلسون في قراهم ومُدنهم يلتهمون الكتب والمجلات ويحفظون الأشعار مجتهدين لتحقيق أحلامهم بأن يصيروا كُتّابًا. ماذا سأكتب عن شاعر عرفتُ بالكاد كليشهاته الشعرية المشهورة على كبر، وعبر موضة الاقتباسات في صفحات التواصل؟
سأنهمكُ في البحث في الإنترنت، ثم عبارات من قبيل: "بعدما سجل أنه عربي، صرخ: ارحمونا من هذا الحب القاتل. محمود درويش يترك ريتا. يرحل ويترك الحصان وحيدًا"، قبل أن يلحق رئيس القسم بيدي ليوقف هراء جريها الواثق على لوحة المفاتيح، وكان خير ما فعل.

3
"الدنيا مقلوبة على موت درويش، تفتكر لو الشاعر فلان مات هايحصل كده؟"، سألت أحد كتّاب الستينيات المعروفين عن فارق القيمة بين درويش وأحد أشهر شعراء الفصحى المصريين. أجاب بأنه لو سقطت قصائد درويش فوق جسد هذا الشاعر هذا ذاته "هتساويه بالأرض"، وضحك حزينًا للفَقد.

كان سهلًا، بنظرة سريعة على مواقع الصحافة، أن تعرف عن مشوار درويش بعضاً مما هو خارج الكليشيه الجماهيري بوعي اللحظة وقتها. صعوبة الخروج من اختزاله شاعرًا للقضية الفلسطينية وأصل صرخته طلبًا للرحمة من "هذا الحب القاتل". علاقته بالقاهرة ومثقفيها وبداياته الصحافية في جريدة "الأهرام". وجوده الذي طغت لمعته على وجود عدد من شعراء وطنه باستثناءات قليلة لأسماء لم تضع منجزه في أفق نظرها محاولة تجاوزه عبر الإنشغال بنفسها.

عامان أو أكثر قليلًا من الرحيل وتتجلى بعض مناطق درويش، كتّاب ينقسمون حوله فريقين. الأول هو نفسه الفريق الذي يتحدث عن ضرورة الصباح والقهوة لسماع فيروز، وكيف أن في هذا مزاج عال تزيده بريقًا أبيات درويش عن المشروب السحري وشرطية صنعه على مهل، وكيف أن تلك القهوة هي "عذراء الصباح الصامت". بينما الفريق الثاني يسخر من تلك الأفكار ضاربًا في طريقه كل ما يتعلق بدرويش وشعره، وفيروز وغنائها، ملتزمًا بصيغة لا تخلو من تقليدية لكيف تبدو من محطمي التابوه في دقائق معدودة؟ الفريقان ظالمان.

ربما أن المعركة الحقيقية الخاصة بشعر درويش هي معركة الذين لم يعترفوا له بتجاوز سؤال القضية والأرض، ذلك إذا استثنينا المعركة التي قاربت على الاختفاء حول اعترافه هو بالتجديد في صورة قصيدة النثر، والتي لا تستطيع أن تخّصه بها، حيث هي معركة كل شعراء التفعيلة، حتى هؤلاء الذين عانوا في بداياتهم عدم اعتراف أصحاب الشعر العمودي، فيما لا تستطيع أن تُعد تقييم شعراء الأجيال الأكثر شبابًا لدرويش بأنه غنائي معركة، هي أفكار مشروعة حول الشعر والذائقة.

4
هنا قماشة عريضة للشعر والكتابة، ومساحة من التجربة الأدبية يسمح لك اتساعها بأن تُحب أجزاء منها وألا تُحب أجزاء أخرى. بالأحرى تختار منها ما يناسب ذائقتك وأسئلتك في العلاقة بالفن والحياة، الزمن والمكان، تداخل الوسائط الأدبية، ودرس في عمق كيفية الانتقال بسؤال الكتابة من الحيز الضيق لحدود جغرافيا الكاتب إلى اتساع الهمّ الإنساني، من إطار العقلي لانفتاح الحسّي.

هنا، أيضًا، عشر سنوات مرت. رحل خلالها كثيرون، وتدربت خلالها على كتابة الرثائيات. صرت أفعلها بآلية، واضعًا في الاعتبار اللحاق بالمطبعة أو ساعة تغيير المادة في واجهة الموقع. ربما تكون تدريبات ناجحة، أو لا تكون، لكن المؤكد أن التكليف بمتابعة أخبار الرحيل لم يعد مربكًا، بعدما صارت معتادة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024