حياة كريستوف بيترز مع الشاي.. تلك المرارة الرائعة

وجدي الكومي

الأربعاء 2018/10/10
كل ما توقعته وجدته في هذا الكتاب.. رحلة غرائبية ممتعة عن الشاي.. ذلك المشروب الأقرب لقلوبنا. توثيق تاريخه، وحكايات جديدة نقرأها للمرة اﻷولى، يكتبها الروائي اﻷلماني كريستوف بيترز، في كتابه الصادرة ترجمته حديثاً في القاهرة بعنوان "الشاي ثقافات.. طقوس.. حكايات" أو العنوان اﻷصلي "تلك المرارة الرائعة.. حياة مع الشاي".

عرفت كريستوفر بيترز من قرب، وكانت لنا ندوة مشتركة العام 2015، قدمني فيها إلى الجمهور اﻷلماني في برلين، وتحدث إليهم عني وعن روايتي "إيقاع" التي كانت صادرة حديثاً آنذاك. وفي منزله، أعد لي كريستوف الشاي، وحدثني عن اهتماماته بشربه. وقتها لم أتخيل أنه بصدد وضع الكتاب الذي صدر العام 2016، إذ أعرف عنه غزارة إنتاجه الروائي، فقد صدرت له -مترجَماً إلى العربية- رواية "غرفة في دار الحرب" عن المركز القومي للترجمة، ومجموعة قصصية بعنوان "استئناس الغربة" عن دار صفصافة للنشر.

علاقة بيترز بالعالم العربي لا تتلخص في ترجمة كتبه إلى العربية. فهو درس اﻹسلام وتعاليمه، وصار مولعاً بالعالم العربي منذ العام 1993. وسافر من المغرب إلى لاهور، ليلتقي علماء وشيوخ وأئمة، وزار مكة والمدينة المنورة، وأشهر إسلامه. وفي كل هذه البقاع، كما يذكر بيترز في الكتاب، وجد حرارة في مشاعر مستقبليه. لكن مصر ظلت بالنسبة إليه المكان الذي يشعر فيه أنه في بيته، وهو الشعور الذي يراوده إلا عندما يكون في قريته على ضفاف نهر الراين في ألمانيا.

في مقدمته للقارئ العربي، يقول بيترز: حتى اليوم لم أجد تفسيراً لكون قلبي يقفز من السعادة كلما انتهى بي المطاف في مصر، ويكون ذلك مصحوبا بالشعور كأنني عدت من رحلة بعيدة إلى بيتي.
يُعرّف بيترز الشاي بأنه مشروب الساعة، وهو الذي يجمع الناس في مصر، ويمثل لهم مادة سحرية تحثهم على الجلوس معاً، وسرد الحكايات، ومناقشة اﻷسئلة ذات الشأن. من أين جئنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وكيف نريد أن نحيا حياتنا؟

يبدأ الكتاب بتعريفات كريتسوف بيترز للشاي، ومعها مقارنات لطيفة بينه وبين القهوة بالطبع، بل ومعلومات غزيرة عن أنواع الشاي الثمينة. ويحلل أولاً كلمة شاي، بأسلوب أدبي ليس غريباً عنه، إذ يقول: كلمة شاي أوTee تعبّر تعبيراً مختلفاً عن كلمة Kaffee. فالتلفظ بالحركة الحادة الواقعة في بدايتها، تحدث وقعاً يبدو كأنه أمر.

يرى بيترز أنه لا يمكن للشاي أن يُشرب بطريقة "تيك أواي"، ويسمو بالشاي ليجعله أعلى منزلة من القهوة، في ثقافة مغايرة تماماً للثقافة العربية. إذ يرى أن القهوة إحدى القوى المهمة المحركة للمجتمع القائم على مبدأ اﻹنتاج، في حين أن الشاي يرمز إلى الانطواء والتأمل الذاتي حيث أنه يرافق من يشربه عندما يتجاذب أطراف الحديث بصوت منخفض، أو عندما يطالع الشارب كتاباً مجلداً خلال جلوسه في غرفة ذات أثاث عريق وفيها لوحات بأطر مذهبة.

عن الفن الحقيقي
سيحدث بيترز قارئه عما يصفه بفن الشاي الحقيقي، وسيسحره تماماً ويدفعه دفعاً للبحث في خزائن مطبخه عن شاي قديم، ليغليه ويشربه، عوضاً عن إعداده بالطريقة السهلة، أي "سكب الماء المغلي من الكاتيل الكهربائي في كوب يحوي فتلة شاي ليبتون". تدريجياً، سيقع قارئ الكتاب تحت وطأة سحره، لا سيما عندما يصل إلى تلك السطور حيث يتحدث بيترز عن أباريق البورسلين ومُدَد وأوقات نضج الشاي، وحالة الشاي التي يفضلها محبوه أو "الشرّيبة"، وهي الكلمة التي لم ترد مطلقاً في الكتاب وإنما وردت في ذهني مرات عديدة. يتحدث بيترز عن حالات الشاي اﻷربع، التي يتراوح بينها الشرّيبة، وهي: إما أن يكون منبهاً، أو مهدئاً، أو خفيفاً مزهراً، أو قوي النكهة وفيه مرارة.

يقول بيترز في أول الكتاب: ذاع بين أصحاب مطاعم ألمانيا، في أعقاب الموجة اﻷولى من انتشار الشاي اﻷخضر، قبل نحو عشرين عاماً، أنه لا يجوز ترك الشاي اﻷخضر ينضج في الماء إلا لفترة قصيرة، ولا يجوز تخميره في الماء بالغ السخونة، "نظراً ﻷنه لا يمكن لأحد أن يطالب بأن يظل موظفو الخدمة المثقلون باﻷعباء، مع أجورهم المتدنية، واقفين عند غلاية الماء بمقاييس حرارة، فقد اتفق الجميع على حل وسط، تمثل في استخدام الماء الفاتر".

ويعرج بنا بيترز على أنواع الشاي الياباني، التي اختبرها مرات عديدة، ومنها شاي السينشا الياباني، وشاي أنجي باتشا الصيني، والشاي السيلاني، ويتحدث في صفحات دقيقة عن المقادير المطلوبة من كل نوع لتحضير كوب شاي طيب المذاق غير مخمر بدرجة مهولة على حد وصفه. لكن الكتاب ليس على صورة الوصفات، إذ يدمج بيترز هذه المقادير، بفقرات وحكايات عن خبراء الشاي في اليابان، وألمانيا: "خبراء الشاي البرلينيين يحتقرون القهوة والاكسبريسو، والشاي بلبن، كما يتحدث في موضع آخر عن أنه عندما كان طفلاً، لم يكن الشاي يمثل له بأي حال من اﻷحوال ذلك النبات الذي ينمو في بقعة ما من الشرق اﻷقصى، ولم يكن يراه نباتاً أخضر اللون". هنا يتحدث عن والديه، وعلاقتهما بالشاي. فأبوه كان يشرب شاي البابونج لعلاج معدته المصابة بالتهيج، ووالدته كانت تشرب الشاي الممزوج بخمر الروم في أمسيات الشتاء قارسة البرودة، إذ كان له تأثير فعال في الوقاية من نزلات البرد الداهمة.

التعلق بأباريق وفناجين
يفتتن قارئ الكتاب بسهولة بفقرات مطولة يكتبها بيترز في وصف أطقم تقديم الشاي، وأباريق صنعه: "في منزل والدي، وفي الدولاب الزجاجي الموضوع بغرفة المعيشة، كان هناك طقم خاص لتقديم الشاي اﻷسود، مصنوع من البورسلين الرقيق الذي يمتزج فيه اللونان اﻷزرق واﻷبيض ويرجع منشؤه للصين أو اليابان".

أماالأصول المختلفة لنبات الشاي، فيرجعها بيترز إلى نبات الكاميليا الصيني، المترعرع في شرق آسيا. افتتان بيترز بسحر المشرق اﻹسلامي من ناحية، وشرق آسيا من ناحية أخرى، ساهم في النهاية في صنع تعلقه بالشاي، وبدء هوسه باقتناء أطقم تقديم الشاي. فيحكي أنه عندما كان طالباً، تردد على متجر للشاي في مدينة جوخ، عثر فيه على طقم تقديم يرجع منشؤه إلى اليابان، أو الصين، وهو عبارة عن أبريق ذي قبضة مضفرة، وخمسة أقداح، وقاعه كان مطلياً بطلاء زجاجي، ذي لون أبيض كريمي.

جنرالات وأبطال 
في الكتاب صفحات يروي فيها بيترز سير جنرالات وأبطال المبارزة اليابانيين، الذين كانوا أول من أخرجوا طقوس الشاي اليابانية، على مدار القرن السادس عشر، واستخلصوا تلك الطقوس من روح مذهب الزن البوذي. فكان اﻷعداء يجلسون معاً مرة أخيرة، قبل خوض المعركة، ليشربوا الشاي. كما كان اليابانيون يعقدون التحالفات والاتفاقيات المهمة خلال شرب الشاي، وكان محاربو الساموراي ينزعون سيوفهم قبل دخولهم إلى غرفة الشاي.

يحكي بيترز حكاية أسطورية عن نشأة نبات الشاي في اليابان، تعود إلى اﻷمير الهندي التاميلي "بودهيدارما" بين العامين 440و528. هذا الأمير كان يقاوم النوم خلال جلساته الطويلة للتأمل الروحي، وهو مؤسس مذهب "الزن" البوذي، ومؤسس تقاليد الفنون القتالية الشرق آسيوية بأسرها. وإزاء عجزه عن مقاومة النوم، انتزع أو قص جفنيه، وقذفهما قوية على اﻷرض، ومنهما نبتت بين عشية وضحاها أول شجرتي شاي، ولم يكن صعباً التعرف إليهما، فشكل أوراقهما يشبه الجفون.

يتضمن الكتاب فصولاً ممتعة عن رحلة بيترز إلى مصر العام 1993، وحكايات فكاهية عن شربه الشاي للمرة الأولى وسط عائلة مصرية تتصل به عبر شقيقة زوجته، وعن رأيه في شاي "العروسة" المصري، الذي يقارنه مع أنواع الشاي التي اختبرها في اليابان والصين وألمانيا. يصف بيترز شاي "العروسة" بقوله: "كان الشاي ذا نكهة قوية، لكنه لم يكن بمثل مرارة خلطة شاي فريزلاند الشرقية.. كانوا يقدمون الشاي في مصر المرة تلو اﻷخرى، بينما كنا نثرثر عن صحة الوالدين، والهموم الوظيفية للأعمام والعمات، لو كنت شربتُ في ألمانيا كميات كبيرة من الشاي إلى هذا الحد، لكنت أصبت بالغثيان إلا أني لم أشعر هنا -في مصر-سوى بتأثير منشط للشاي بصورة مقبولة".


(*) صدر في مصر عن دار العربي للنشر والتوزيع، بترجمة سمر منير.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024