محمد أحمد شومان... الحاج سعيد حمد: قبضايًا وقوِّالاً(*)

المدن - ثقافة

الأحد 2019/09/08
 
[هذه النبذة مهداة إلى روح المرحوم الصديق محمود المصري، الذي توفَّاه الله قبل أن يقرأها وكنت وعدته بكتابتها، وهو حفيد الحاج سعيد حمد. كان محمود رحمه الله قبضايًا كجده، مفعمًا بالشهامة والطيبة.. فعذرًا يا محمود عن تأخُّري في الكتابة، فلَكَم كان القدر حازمًا وغادرًا إذ اختطفك من بين محبِّيك] - أبو هلال.
***
لم أر الحاج سعيد يومًا خارجًا من منزله بثياب اللحظة الراهنة التي تمليها ظروف قاضية. كان دائمًا مُتأوَّجَ الأناقة التي تلقي عليك السلام. شروال أسود تلفُّه شملة سوداء لامعة، يعلوهما صديريٌّ من قماش الشَّرْخَانَة، وعلى الرأس الطربوش العثمنلي الأحمر ذو الشرابة السوداء، وعلى الصدر تتدلَّى دائمًا ساعة الجيب المعلقة بسلسة ذهبية خالصة، وفوق كل ذلك لم يكن ليستغني عن النظارة سلكية الإطار ذات الزجاجتين السوداوين. وكانت نظرة الافتخار الوادع تلوح من ورائهما وهو يعلم أنَّ منظره يثير لدى الرَّائي الشعور بالاحترام. والحقيقة أنه كان ذا نظرة طيبة، بل متناهية في الطيبة. فكيف برجل يحدب على المساكين أن يكون ذا عُجْبٍ وكِبَر؟


بيد أنَّ كل ذلك لا يجعل الصورة مكتملة إذا لم يطلق شاربه المعقوف، على عادة قبضايات بيروت، الذي يسهم مرهم "الكوزماتيك" بتثبيت انعقافه نحو الأعلى على الجانبين. ولطول ما كان يعتمر الطربوش، تبدَّى على رقبته شعر رقيق قليل يستدير مع استدارتها، ويشي بندرة الشعر في رأسه. إذ أنني لم أره مرة من دون طربوش! وكان هذا الشعر لفرط رقته ونعومته يجعلني –وأنا الطفل الذي لم يتجاوز عمره السنوات السبع- أشبِّهه بـ "خروفٍ صغير"، حتَّى أنَّني أسررت بذلك لوالدي مرة، فنهرني بابتسامة ثمَّ بضحكة قائلاً بما يشبه التحذير: "إنَّه الحاج سعيد". كان ذلك كفيلاً بأن يعكس مدى احترام الرجال لهذا الرجل. إذ كان كل ما فيه يوقظ إعجابًا شديدًا لا مردَّ له. بل إنني في طفولتي كانت تبهرني عجيبته بأنه كان لديه ابنان توأم لا يستطيع أحد التمييز بينهما؛ فازدادت لدي القناعة بأهمية هذا الرجل الذي يستطيع إنجاب التوائم أيضًا!

كان الحاج سعيد حمد يعتاش من مقهى يمتلكه في منطقة البسطة، وقد أطلق عليه اسم "مقهى المتوكِّل على الله الحاج سعيد حمد"! ولصفة التوكُّل على الله هذه شأن لدى أهل بيروت البسطاء، صوفيِّي التربية والنشأة. فقد كانت الصوفية في عصور ذاوية أسلوب عيش، وكان التسامح ديدن الناس، يعيشونه صبح مساء. وكانت حلقات الذكر تعجُّ بالبيارتة الذي كانوا يكنُّون ضافي الاحترام لأولياء الله من المشايخ والعلماء ذائعي الصيت في العلم والتقوى والبر. ومقام التوكُّل من المقامات الصوفية الرفيعة، ولا يكفي المرء أن يتَّسم به حتى يكون كذلك، بل كان التعويل على الممارسة. فأين كان الحاج سعيد حمد من ذلك؟

بنى هذا الرجل سمعة عظيمة في أوساط الناس على اختلافهم، حتى صار موئل صاحب الحاجة، سواء أكان غنيًّا مزكِّيًا أم فقيرًا معوزًا. فقد كانت تترى لديه مواد الغذاء الأولية التي كانت شائعة أيامها، كالدقيق والأرز والسمن والزيت والسكر والطحينة وغيرها، فيعمد إلى توزيعها وفق مبدأ ألا تعلم شمالك بما أعطته يمينك. وكان هذا النشاط التوزيعي يؤتى تحت جنح الليل، ويا له من ليل بيروتي كريم. وقد كان لدى الحاج سعيد عصابة من أولاد الشارع يوظفهم في توزيع المساعدات ويلقنهم أصوله، وكان هذا من مآثره التربوية. فالأساس ألا يرى الفقير من ذا الذي وضع "الجراية" على بابه. ولكن هيهات ألا يتسارَّ فقراء الحي باسم صاحب الفضل.

كان الحاج سعيد يجلس عند باب مقهاه يلقي السلام على المارَّة ويتلقَّاه من أصحاب الدكاكين والرواد؛ وكان يفحص الأرض بعصاه الخشبيَّة المزيَّنة بالزخارف، التي لم تكن تفارقه في رواحه أو غدوه، لكأنَّها أصل من أصول الوجاهة التي ينبغي ألا تُغفَل. ولا بأس أن يتلمَّس بسبابته وإبهامه طرفي شاربه المعقوفين زيادة في إشاعة الحضور الآسر.

ولعلَّ أهمَّ ما في شخصية الحاج سعيد إلى القبضنة والوجاهة، أنه كان شاعرًا قوَّالاً ينظم المواويل البغدادية. وقد وقعتُ في جريدة "السفير" خلال الثمانينات على حديث أجري مع شيخ اللغة العربية العلامة عبد الله العلايلي يقول فيه، ردًّا على سؤال عن متابعته لما يصدر من الشِّعر الحديث: "لا يوجد شعر حديث، لا يوجد معنى، من عندهم نفحة معنوية صحيحة، فهذه النفحة تكون شعرًا سواء قلتها بأيِّ شكلٍ كان، عامي أو غير ذلك. مثلاً، أنا في كتابي "مقدِّمة لدرس لغة العرب" سنة 1938، استشهدت بشاعر من عندنا اسمه سعيد حمد، وكان يقول موالاً بغداديًّا، وقد فضَّلته على شوقي من حيث المعنى، فجمالية شوقي في التعبير بطبيعة الحال، لا في المعنى. قال الشاعر شاكيًا مَنْ حولَه وظروف زمنِه:
لَرْكَبْ مِنِ البحْرْ لُجَّا واسْرِجْها بْعِدَهْ وَلْحَقْ بِعَادْ وثَمُودْ المُوحِشاتْ بْعِدَهْ
وهْجُرْ رُبوعي وْهَلِي ألْفَيْنْ عَامْ وِبْعِدَهْ عَنْ جِيرَةٍ قَطْ مَا لَها صُرُوفْ، إعْدِل"
ويتابع الشيخ العلامة فيقول: "صاحبنا شوقي قارنته، في كتابي السابق الذكر، مع معنى هذه الأبيات وقلت إنَّ هذا يشابه المعنى عند شوقي، لكنه أغزر، وهو يقول في رثاء "كارنارفون" الذي أشرف على اكتشاف "توت عنخ أمون" ومات أثناء البحث، وقيل "أصابته لعنة الفراعنة". أنظر الثراء الروعة يقول:
أفضى إلى ختم الزمان تصدأ وَحَبَا إلى التاريخِ في محرابِهِ
وطوى القُرُونَ القهقَرى حتَّى أتى فرعونَ بين طَعامِهِ وشَرابِهِ"
وبالعودة إلى "مقدِّمة لدرس لغة العرب"(*) فاضل الشيخ بين موَّال سعيد حمد وبين أبيات شوقي:
".. ويتوسَّع هذا الدرس بتناول الجديد من الأوزان والبحور المستحدِثِها أدباء كلِّ جيل، ليفرُغَ في النهاية إلى دراسة مجموعتنا الشعرية التي هي أغناها بالتجديد والافتِتان. وإن كانت لم تستقرَّ بعدُ على وجهٍ عملي بما فيها الأزجال والمواويل والمُعنَّى والقرَّاد. والحق أنها جديرة بالدرس فهي غنية من الناحية الأدبية، خصبة أشدَّ الخصوبة. ولا بأس من أنَّ أُورِدَ موَّالاً على البغدادي لقوَّالٍ بيروتيٍّ، يذكر فيه بمضض وحُرقة خيانة الجيرة وذوي القُربى.."؛ ثمَّ يورد بيتي الحاج سعيد، ويتابع أنَّ هذا ".. هو بحقٍّ أبرعُ ما قيل في معناه المقصود. وهو تصوير الرُّجوع إلى الماضي، والعودة إلى ضمير التاريخ السَّحيق في أبدِيَّة الغابر، أفتَنُ من شوقي (...) على دهشة ما طَلَع به شوقي. ووجُهُه أنَّ القوَّال يتمنَّى على الدهر لو يركَبُ من البحرِ لُجَّةً مُسْرَجةً ويَلحَقُ عليها الماضي مع وجهِه إلى أعمق المَغاوِر، حيث تقطن قبائل عادٍ وثمود في موحِشات البُعدِ السحيق ومُظلمات الأبديَّة النائية؛ هذا التصوير الذي بلغ فيه غاية الافتتان في التعبير ("وَلْحَقْ" و"المُوحِشات"). ثمَّ يزيد الصورة خَلْبًا بقوله: "وَهْجُر ربوعي وْهَلِي ألفينْ عام وِبْعِدَهْ". تأمَّل بدقةٍ المُهَاجَرة بعيدًا عن الأهل والرُّبوع في أنفاق الماضي، حيث يكونُ حاجز الزَّمن بمقدار ألفي عام. ثمَّ قول شوقي على براعته المتمثِّلة في الإسناد إلى المًتَكَشِّف بعبارة طيِّ القُرون لا نجد فيه شيئًا من الزِّيادات التي يُطرِفُنا بها القوَّال بوضوحٍ وظهور وقوة...".


مع اندلاع حرب لبنان الأهلية في سنة 1975 بلغ الحاج سعيد من العمر أرذله. ومع بداية "الجولات" لازم بيته يتسقَّط أخبار الاشتباكات موقنًا أنَّ ما يحدث يختلف عمَّا شهده من أحداث خلال عمره المديد، منذ السفربرلك حتى آخرها "ثورة الـ 58". فهنا، بحسب ما يُروى عنه، انعدمت الأخلاق وسادت البهيميَّة.. "قتل على الهوية؟ يا لطيف اللطف ألطف". وأُثِرَ عنه أنه كان يفحص الأرض بعكازه المرصَّع عاجزًا عن تحديد الكلمات لقولةٍ.. أيِّ قولة. ثمَّ جاء أجل ربك في سنة 1976 فمشى في جنازته قوم كثير وما تبقَّى من قبضايات العصر الجميل الذين أكلتهم نارا العمر والحرب، حتى لم تُبقِيَا منهم قبضايًا يخبِّر.. وحلَّ عصر زعران الميليشيات، عافانا الله وعافاكم وشافانا وشافاكم.

(*) الشيخ عبد الله العلايلي: مقدمة لدرس لغة العرب، دار الجديد، الطبعة الثانية، 1997، ص 158-160.
(**) الحلقة الأخيرة من مدونة لمحمد أحمد شومان عن شارع حمد نشرها في صفحته الفايسبوكية، وسبق أن نشرنا الحلقة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024